زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

يهيمون.. رؤية في الشعر وعوالمه

“صحنين بالك لا تصور معاهم .. صحن الطواف وصحن تكرم به الضيف” (محمد مطلق الجربا)

سمعت هذا البيت في إحدى الصباحات، وأنا أقود سيارتي في شارع الأمير سلطان في جدة، أعجبني تركيبته ومعناه، لن أتكلم عن الشبه الهندسي (الدائري) بين صحن الطواف، وصحن الضيافة، ولكن عن الشبه والتشبيه الديني والأخلاقي بين الصحنين.

صحن الطواف له قدسيته، فالآية ﴿أَن طَهِّرَا بَیۡتِیَ لِلطَّاۤىِٕفِینَ وَٱلۡعَـٰكِفِینَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ﴾، والطواف بالبيت أو الكعبة معروف منذ القدم، أي قبل الإسلام، وأما صحن الضيافة (فليكرم ضيفه)، وهذا في زمننا، حيث كبرت البطون وكبر معها إكرام الضيف والصحن.

الشبه هنا ديني من حيث الأمر، وأخلاقي بأن لا يتباهى إنسان بتصوير نفسه في صحن الطواف، وأن لا يصور صحن الضيافة حين يقدمه لضيوفه، وكأن المضيّف يريد أن يُري الناس أنه مضياف وكريم، وهو عكس ذلك، فالكريم لا يعرض كرمه للناس، لأن في ذلك مِنّة.

(هنا أذكر سالفة عن بعضهم أيام الجوع، كانوا إذا قدموا للضيف الوجبة وعادة ما تكون قطعة من الخبر الجاف مع قليل من السمن أو ما شابه في قصعة لا تشبع شابا هذه الأيام قالوا له: تعش يا جيعان/ منة و إذلال للضيف).

الشعرية أو الشاعرية هنا في ثنائية التشبيه بين صحن الطواف (القدسية والإجلال للمكان وهيبته)، وصحن الضيف الذي حثت العادات العربية ثم الدين على إكرامه، حيث جعل الشاعر مكانة صحن إكرام الضيف في الإجلال والإكرام مساوية لصحن الطواف.

وهناك حركة يطوف/ يكرم/ وصور تضيف جمالية على المشهدين.

والصورة ثلاثية الأبعاد في -نظري الستة على ستة بالنظارة- هي الثنائية التقابلية في وصف الطائفين عند تحلقهم حول صحن الطواف عند أداء الصلاة المكتوبة، و تحلق الضيوف حول صحن الأكل.

وسألتني نفسي (الأمَّارة بالسوء): هل ما سبق شعر أم نظم؟

دُعيت الأسبوع الفارط (حلوة الفارط)، لحضور يوم الشعر العالمي في مؤسسة من مؤسساتنا الثقافية، وكان يصاحب تلك الفعالية تكريم لبعض الأصدقاء الذين أكنّ لهم كل تقدير واحترام. لن أتحدث عن التنظيم و(اللخبطة) التي كانت سائدة، ولا عن حديث البعض عن ذواتهم و إنجازاتهم، والتي في رأيي لا تقدم ولا تؤخر في الحركة الأدبية، ولا تُقدم للمجتمع شيئًا مفيدًا.

سأتكلم عن شيئين : الأول برودة التكييف غير الطبيعية، التي تسربت إلى (عظامية) عانيت منها آلاما في قدمي، وبعد ذلك عانيت من حمى وصداع وزكام، لكن تلك البرودة غير الطبيعية أنقذتني في الوقت المناسب، حيث اعتلى صهوة المسرح أربعة يقال عنهم أو في تقديمهم على أنهم شعراء، وما سمعته لا يمت للشعر بصلة من قريب أو من بعيد، ولا حتى بالرضاعة، وذكرني ذلك بشخصية اعتبارية (يرحمه الله) كان ذا منصب عال، أهدى لي أول رواياته وطلب مني قراءتها وإبداء رأيي، فقرأتها وكتبت له: “وجدت فيها كل شيء إلا الرواية”.

ما سمعته في تلك الليلة من الأشخاص الذين اعتلوا خشبة المسرح قبل مغادرتي كان فيه كل شيء إلا الشعر، وهذا في رأيي غير المتواضع.

إذا ما هو الشعر ومن هو الشاعر؟

تذكرت مقالة لكاتبي المفضل ميخائيل نعيمة أو نعيمي كما ينطقه إخواني (لاحظوا كتبت إخواني لوحدي ولم أكتب إخواننا) اللبنانيين (على فكرة ميخائيل كاتبي المفضل وبدأت قراءته وأنا في سن العاشرة) يقول:

“إن جهلنا معى الشعر الحقيقي ومنزلته في عالم الأدب قد أوصلنا الى ما نحن فيه الآن، من وفرة “النظامين”، وقلة الشعراء، وغِنانا بالقصائد، وفقرنا بالشعر.”

ثم يذكر الفرق بين الشاعر و “النظّام” فيقول : “إن الشاعر لا يأخذ القلم في يده إلا مدفوعا بعامل داخلي لا سلطة له فوقه، فهو عبد من هذا القبيل، لكنه سلطان مطلق عندما يجلس لينحت لإحساسه وأفكاره تماثيل من الألفاظ والقوافي”. أما “النَّظّام” فيأخذ قلمًا وقرطاسًا وييدأ بوخز دماغه وقريحته علّه يتمكن من أن يهيّجهما ولو قليلا، غايته أن لا يترجم عن عواطف، أو أن يعبر عن أفكار بل أن ينظم قصيدة”

والشاعر عند ميخائيل نعيمة هو : “نبي وفيلسوف ومصور وموسيقي وكاهن، لأنه يرى بعينيه ما لا يراه كل بشر ومصور ، لأنه يقدر أن يسكب ما يراه ويسمعه في قوالب جميلة من صور الكلام، وموسيقى لأنه يسمع أصواتا متوازية حيث لا نسمع نحن سوى هدير وجعجعة، العالم كله عنده ليس سوى آلة موسيقية عظيمة تنقر على أوتارها أصابع الجمال، وتنقل ألحانها نسمات الحكمة الأبدية والشاعر الذي تعانق روحه روح الكون يدرك هذه الحقيقة أكثر من سواه. الشاعر كاهن لأنه يخدم إلها هو الحقيقة والجمال، هذا الإله يظهر له في أزياء مختلفة وأحوال متنوعة، لكنه يعرفه أينما رآه، ويقدم لنا تسابيح حيثما أحست روحه بوجوده. يراه في الزهرة الذاوية، والزهرة الناضرة، يراه في حمرة وَجْنَة الفتاة، وفي اصفرار وجه الميت، وبالاختصار، إن روح الشاعر تسمع دقات أنباض الحياة، وقلبه يردد صداها”

ويفرق بين الشاعر والشعرور : “على أن الشاعر لا يصف إلا ما يدركه بحواسه الجسدية، أو يلامسه بروحه.. أما الشعرور فيحاول أن يقنعنا أنه حلم حلمًا نحن نعلم علم اليقين أنها لم تمر له برأس، لا في النوم ولا في اليقظة، ويصف لنا عواطف لم يشعر بها بشر ولا جن ولا ملاك”.

ويرى نعيمه أننا إذا سمعنا الشاعر “يتغزل بجيل ذهبي، بجيل لا أثر فيه للظلم والبغض والفقر والحسد والنزاع والموت، بجيل يسود فيه الحب، والعدل، والإخاء، والمساواة، وهلم جرا، فلا تنعتوه بالجنون والكذب والوهم، هو لم يخلق الحب، ولم يوجد العدل، ولا سبّب الفقر، ولا قال للفقر كن فكان، هو وجد هذه الصفات والأحوال في العالم عند زيارته هذا العالم، لكن روحه التي تعشق، وتنفر من القبيح قد وضعت هذه الصفات في نسبة جديدة غير التي نراها سائدة في حياتنا اليومية، وتغير النسبة هو اختلاق الشاعر الذي ندعوه “خيالا”، لكن خيال الشاعر حقيقة، والشاعر الذي يستحق أن يدعى شاعرا لا يكتب، ولا يصف إلا ما تراه عينه الروحية، ويختمر به قلبه حتى يصبح حقيقة راهنة في حياته، ولو كانت عينه المادية أحيانا قاصرة عن رؤيته. ذلك لا يعني أن الشاعر يقدر أن يدعو الأسود أبيضَ، والأحمر أصفرَ، أي أن يُـعّري الأشياء الحقيقة عن مميزاتها الطبيعية، ويعطيها صفاتًا من عنده داعيًا ذلك “خيالا”.

– إن ما ذهب إليه ميخائيل في وصفه للشاعر بقوله “ما تراه عينه الروحية”، أزعم أنه يتقاطع إن لم يكن مقتبسا من تعريف الشاعر الإنجليزي وليام ووردزوورث

حيث قال William Wordsworth عن تعريفه للشعر:

“The spontaneous overflow of powerful feelings, it takes origin from emotion recollected and contemplated (gazed and gazed) In tranquility recreated by the memory of kindred emotion (by the inward eye”.

الفيضان العفوي للمشاعر القوية، يأخذ أصله من العاطفة التي يتم تذكرها والتأمل فيها (التحديق والتحديق) في الهدوء الذي أعيد إنشاؤه بواسطة ذاكرة العاطفة اللطيفة (بواسطة العين الداخلية).

هنا العين الداخلية inward eye هي ما عبر عنها ميخائيل نعيمة (ما تراه عينه الروحية)، ولعل ميخائيل نعيمة أسهب في وصف الشاعر وصفته، وما يراه مختلفا عن غيره، مع أن الناس على اختلاف أعراقها وألوانها لديها نفس الأحاسيس والمشاعر، لكن يختلفون في طريقة إظهارها والتعبير عنها، و الشاعر هو من لدية المَلَكَة والقدرة على سَبْكِ تلك المشاعر في قوالب مختلفة تبعًا لما تراه عينه الداخلية/ الروحية.

على أن ووردزوورث، أولًا: كان يعتقد أن الطبيعة هي أفضل موضوع للشعر. ثانيًا: اعتقد أن الغرض من الشعر هو إعطاء صوت للعاطفة التي أثارها التأمل في الطبيعة في الشاعر  (الفيضان التلقائي للعواطف القوية). ثالثًا: اعتقد أن اللغة الشعرية يجب أن تكون بسيطة وقريبة من لغة الناس العاديين. رابعًا: كان يعتقد أن المحتوى الأخلاقي أو الروحي للشعر يجب أن ينبع بشكل طبيعي من الموضوع الشعري.

وموقف ووردزوورث من تعريف الشعر يتعارض مع شعراء تنويريين في الشعر الإنجليزي مثل الكسندر بوب Alexander Pope الذي كان ينظر إلى الشعر على أنه شكل من أشكال الخطاب العام، وغالبًا ما يكون ساخرًا وسياسيًّا بشكل صريح، ويمكن أن يكون تلميحيًّا للغاية ويستند إلى مواضيع كلاسيكية. بينما سعى ووردزوورث إلى جعل الشعر شخصيًّا أكثر، وأقل فكرًا، وأكثر ارتباطًا بالرجل العادي، وأكثر إخلاصًا عاطفيًّا.

ويرى البعض أن الشعر أو الأدب عموما هو: Defamiliarization

Is the artistic technique of presenting to audiences things in an unfamiliar or strange way so they could gain new perspectives and see the world differently.

الترجمة: هي التقنية الفنية لتقديم الأشياء الشائعة للجمهور بطريقة غير مألوفة أو غريبة حتى يتمكنوا من اكتساب وجهات نظر جديدة ورؤية العالم بشكل مختلف.

إن هذا المفهوم يعمل على أن يتعرف القاريء على اللغة الفنية للأدب عمومًا وهذا المفهوم للتمييز بين لغة الشعر والنثر، وقد قال أرسطو:

“poetic language must appear strange and wonderful”.

الترجمة: اللغة الشعرية يجب أن تكون/ تظهر غريبة و رائعة.

ويوري مارغولين Uri Margolin له رأي جميل، حيث يقول:

It is the function of art to renew our perception. What we are familiar with we cease to see. The writer shakes up the familiar scene, and as if by magic, we see a new meaning in it.

الترجمة: إنها وظيفة الفن لتجديد إدراكنا. ما نحن على دراية به نتوقف عن رؤيته. يهز الكاتب المشهد المألوف، وكما لو كان بالسحر، نرى معنى جديدًا فيه.

من الكتاب العالميين الذين اشتهروا بهذا المفهوم أو المصطلح فيرجينيا وولف Virginia Woolf، وتولستويTolstoy.

بعد كل ما سبق، لا بد أن أدلي (بسطلي)، وفي رأيي غير المتواضع أن الشاعر الذي لا يستطيع أن يصف أو يعبر عن فكرته في عشرة أبيات، سيدخل بعد ذلك في الحشو أو كما تقول العربية “حوشي الكلام”، ويخرج من الشعر إلى النظم. والعرب أمة متناقضة قولًا وفعلًا، فقالوا: إن البلاغة في الإيجاز، وخير الكلام ما قل ودل، لكن نجد أن قصائدهم (المعلقات مثلا) تخالف ذلك، ولو أخذنا قصائد المتأخرين مثل جرير والفرزدق وأبي الطيب، لوجدنا أنهم لا يتكلمون عن فكرة واحدة أو موضوع واحد، بل عدة مواضيع وأفكار، وهذا يفقد القصيدة ما يسمى الوحدة العضوية (organic unity). أعرف أن رأيي (غير المتواضع) سيغضب الكثيرين، لكن لو أعادوا القراءة بتأنٍّ والهدف هو تجديد الإدراك، والتوقف عن رؤية ما نحن على دراية به، ونكف (نتوقف) عن ترديد (لا فض فوك) و (صح لسانك) و (أحسنت)، فهذه العبارات هي التي ولّدَت لدينا أجيالًا من النَّظَّامين والمتشعررين.

عمتم مساءً.

بقلم/ علي بن عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

‫50 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88