إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الطبيعة ملاذ الاستجمام الأول

عندما نغرق في دوامة الحياة الروتينية، وانشغالاتها اللا متناهية، حتى يتسلل الإرهاق والتعب إلى أجسادنا، بعد قضاء الساعات الطوال في التحديق في شاشة الحاسوب الماثلة أمامنا، أو أوراق الملفات والمعاملات المصفوفة على مكاتبنا، قد نسمع بوضوح وقتها صوتًا من العدم، وكأنه إشارة تحذير صامتة، تجبرنا على التوقف لبرهة والنظر في حالنا، صيحة واضحة جلية على هيئة آلام أسفل الظهر، أو تشنج خلف الرقبة، تدفعنا للميل لا إراديًا إلى الوراء قليلاً لنتكئ على ظهر كرسينا المتحرك، ونستعد لإغلاق أعيننا، وإرخاء عضلاتنا، ومن ثم التحليق بأذهاننا في أحلام اليقظة إلى خارج حدود الزمان والمكان، وبسرعة تفوق الصوت والضوء معًا. ننتقل لتلك الجزيرة الساحرة الواقعة في البحر الكاريبي، أو المحيط الهندي، بشاطئها الرملي الناعم، وزرقة مياهها المتدرجة، ونسمات هوائها المشبعة برائحة الماء والرطوبة المحببة، وهي تداعب وجوهنا ونحن نحلم بعطلة صيفية ممتعة نهرب بها من جدية الحياة وصخبها، وننسى فيها التزاماتنا وكل ما يصاحبها من ضجيج وفوضى.

ليس من الغريب البتة أن نحلم باستراحة في قلب الطبيعة الأم ذات المساحات الشاسعة، التي استثمرها الإنسان عبر العصور ببناء المنتجعات وتوفير الخدمات، واستغل مواردها الطبيعية وجمالها الفتان، وصنع منها ومن غيرها قبلة سياحية ساحرة، ذات إطلالات بانورامية مذهلة، وملاذًا للمريدين والمحبين للاسترخاء والاستجمام، ووفر فيها لنفسه حياة مرفهة مستدامة، وحقق عن طريق الاستثمار فيها أرباحًا مادية طائلة، ومكاسب هائلة.. ولا ضير في ذلك أبدًا.

فالإنسان هو العقل المدبر، صانع المعجزات ومطور الحضارات منذ آلاف الأعوام، ولكن على الرغم من ذلك الإبداع المنقطع النظير عجز الإنسان عن حماية الأرض من التبعات والآثار السلبية، المتمثلة في التلوث والاحتباس الحراري وغيرها من تداعيات تلك النهضة العظيمة والعمران. لو تأمل البشر صنع الخالق جل وعلا من حولهم، وتدبروا تلك اللوحات الربانية الخلابة من أشجار وثمار، وبحيرات وأنهار، ومحيطات وبحار، وتدبر بعمق تلك المنظومة الكونية المتكاملة، بكل من يعيش فيها من مخلوقات حية، والتي تتفاعل معًا بتناغم وانسجام مبهر، وتناسق متقن متكامل، كسيمفونية موسيقية تعزفها أوركسترا عالمية، مما يدفعنا للظن أحيانا بأننا نحن البشر الدخلاء على هذا الكون، ومعول الهدم الذي يتسبب في اختلال توازنه وإفساد روعته!.

وهنا يتبادر إلينا السؤال الحتمي الأهم.. ألا وهو:

كيف ننسجم ونحسِّن بدلاً من أن نلوّث ونحطم؟

إننا نحتاج بلا شك إلى تواصل حقيقي وفهم عميق، وأن نعود جزءًا من هذا الكون العظيم، لا كائنا يعيش فوق أرضه فقط، لم أقصد القول بأن نعانق شجرة لكي نشعر بطاقتها لأن ذلك من وجهة نظري إجحاف بمكانتها وعظم فوائدها، إنما أقصد بذلك الدأب على استحضار أهميتها وتقديرها كخطوة أولى، والنظر إليها عن كثب، والإنصات باستمتاع لتغريد الطيور التي تعيش على أغصانها، وحفيف أوراقها، وأن نتنفس بعمق عبقها الممزوج برائحة أخشابها المتجذرة في الطين، وأن نتدبر الفوائد والمكاسب التي جنيناها من أوراقها وأخشابها على مر العصور، وأن نشعر بعظيم الامتنان والتقدير، الذي يدفعنا لأن نعاهد أنفسنا على العناية بها وحمايتها، وتثقيف أنفسنا وذرياتنا من بعدنا والأجيال القادمة.

وإنني أكاد أجزم بأن اعتماد هذا السلوك الإيجابي مع جميع الكائنات الحية من حولنا سيحقق الانسجام المرجو، والتحسين المتوقع، والذي قد يخفف من سلوك التدمير الذاتي المعتمد من كثير من البشر، ولربما امتنعنا عن سلوكيات التخريب والإفساد المتعمد كرمي القمامة في البحار وتخلينا لو لمرة عن أنانيتنا المعتادة. قال الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَوۡا۟ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَمَا فِی ٱلۡأَرۡضِ وَأَسۡبَغَ عَلَیۡكُمۡ نِعَمَهُۥ ظَـٰهِرَةࣰ وَبَاطِنَةࣰۗ …﴾ [سورة لقمان – 20].

نعم نحن مغمورون في بحر من النعم والفوائد والمزايا المكتسبة من تسخير كل مورد طبيعي موجود على ظهر الأرض أو باطنها، وبالشكر تدوم النعم.

فلننظر من حولنا، وننصت بآذان مصغية لنداءات الاستغاثة، أو نشاهد فيلمًا وثائقيًّا يشرح بالتفصيل التحديات والكوارث البيئية الحالية والمرتقبة، ونستقبل فيض المعلومات بذهنٍ صافٍ وأفق واسع وقلب حي، ونثقف أنفسنا ومن حولنا، ونتحدث أكثر عن حماية الأرض من التلوث، والسبل لتحقيق تلك الحماية، وذلك أضعف الإيمان.

ومن أبرز الأفلام الوثائقية التي أنصح بمشاهدتها، والتي تتحدث بإسهاب عن تأثير الانسانية على الطبيعة، فيلم (حياة على كوكبنا)، والذي تم إنتاجه في عام ٢٠٢٠م، وقدمه المذيع والكاتب البريطاني القدير ديڤيد آتينبارا.

لن يكون الحل المثالي لمشاكل البيئة هو تخريب لوحة فنية عتيقة في متحف كما شهدنا مؤخرًا، أو بارتداء أزياء غريبة وإزعاج الآخرين وتعطيل مصالحهم، أو برفع شعارات وتنظيم المظاهرات والمناورات اليائسة، بل بتثقيف مجتمع كامل، ودعم كل سلوك إيجابي يحمي البيئة مهما صغر حجمه، والعمل والتعاون سويًا كمجتمع دولي للتخفيف من آثار التلوث والمدنية، والمحافظة على الطبيعة الأم، وملاذنا الأول.

نستطيع جميعنا أن نزرع شجرة، وإعادة تدوير الأشياء المستخدمة في حياتنا اليومية لتقنين الاستهلاك، والتقليل من شراء البلاستيك، والترشيد في استهلاك الماء، والتطوع في الحملات المرتبطة بخدمة البيئة وغيرها من السلوكيات البسيطة المتكررة والتي حتمًا ستعين في تخفيض الضرر، وتساهم بإيجابية في حماية كوكبنا.

ولا يخفى على أحد الاهتمام الواضح من حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله، وذلك بتبني مبادرات في مجال الطاقة من شأنها تخفيض الانبعاثات الكربونية. حيث ناقش الأمير محمد بن سلمان خلال افتتاحه أعمال قمة «مبادرة الشرق الأوسط الأخضر»، الذي عقد في نهاية العام الماضي وبمشاركة دولية واسعة يتصدرها رؤساء وقادة الدول وصناع القرار في العالم، وذلك لرسم خريطة إقليمية لحفظ الحياة ورفع جودتها، في بادرة تقدمها مملكتنا الحبيبة لصنع الفارق العالمي في حفظ الطبيعة والإنسان والحيوان ومواجهة تحديات التغير المناخي، وقال: (نجتمع اليوم في هذه القمة لتنسيق الجهود تجاه حماية البيئة ومواجهة التغير المناخي لوضع خارطة طريق لتقليل الانبعاثات الكربونية في المنطقة بأكثر من (%10) من الإسهامات العالمية، وزراعة (50) مليار شجرة في المنطقة وفق برنامج يعد أكبر برامج زراعة الأشجار في العالم، ويساهم في تحقيق نسبة (5%) من المستهدف العالمي للتشجير).

فهنيئًا لنا هذا الدور الفعّال والخطوات الإيجابية بقيادة حكومتنا الرشيدة، والتي نشهدها اليوم، وسنحصد ثمارها في المستقبل القريب بإذن الله تعالى.

لقد انتقلت مع عائلتي الصغيرة قبل أعوام قليلة للسكن في مدينة صناعية، تطل على شاطيء البحر، وعلى بعد نصف ساعة تقريبا من مساكنها وبيوتها تقع المصانع التابعة لها، وعلى الرغم من وجود دخان المصانع المتصاعد والذي نشاهده في أوقات محددة، ونميز رائحته النفاذة جيدًا من وقت لآخر، إلا أن القائمين على إدارة المدينة قد بذلوا مجهودًا جبارًا مثيرًا للإعجاب؛ للتخفيف من الآثار السلبية لتلك الأبخرة على البيئة، وذلك بالعناية بتشجير الشوارع والأرصفة، وإنشاء الحدائق الجميلة المبهجة بأشجارها المتنوعة والتي استقطبت أنواعًا عديدة من الطيور، وبالحرص الدائم على نظافة الشواطيء والواجهة البحرية.

وفي حديقة منزلي المتواضع يوجد شجرة مانجو تقف شامخة على الرغم من كبر سنها واصفرار بعض أوراقها، ولكنها بفضل الله ما زالت معطاءة وتثمر كل عامين لتهدينا محصولاً طازجًا من حبات المانجو حلوة المذاق، نتشاركه مع الأهل والأحباب، كما تقف بجانبها نخلة غير مثمرة لكن يكفينا منها جمال منظرها، وأغصانها الباسقة وأوراقها العريضة؛ أحب أن أخرج وأقف أمامهما من حين لآخر لأتأمل بديع صنعهما، وأجد نفسي غارقة في التفكير والتخيل، وأسأل نفسي:

ماذا لو كان لهذه الكائنات لسان ينطق، بماذا ستخبرنا، أو تطلب منّا؟

بماذا ستصرخ الطيور والأسماك وغيرهم من الكائنات المهددة بالموت بسبب مخلفات غير قابلة للتحلل.. أو لأننا قررنا تعرية مساحات شاسعة من الغابات لبناء معامل أو مصانع؟

(الأرض لها موسيقى لمن يسمع فقط) عبارة قرأتها ولا يحضرني من قالها، تُرجمت من اللغة الإنجليزية، وأحببت مشاركتها معكم لكم لأنها تختصر الكثير.. فلنرهف السمع، وننصت بكل حب لموسيقى أرضنا، ونحول ذلك الحب لسلوكيات وعادات تعود علينا بالنفع، وتدوم ثمارها للأجيال القادمة بإذن الله تعالى.

بقلم/ مروة الأماسي

 

مقالات ذات صلة

‫32 تعليقات

  1. مقال جميل يصف الحال ويعطي حلول ويوضح مدى اهمية الحفاظ على الطبيعة من اجل استمرار الحياه بشكل افضل
    موفقه بالعنوان والمحتوى

  2. جميل جدا ما ذكر عن غناء الطبيعة وكيفية الاستمتاع بألحانها وسيكون بالفعل كل بقعة في هذه الأرض ملاذا لنا انه اشبه بحلم رائع او نقاء في العيش لا يعكر صفوه شوائب

    ولو تحدثت كائنات الطبيعة حتما ستخبرك أنك أصدق من تحدثتي نيابة عنها

    بورك قلمك 🌹 تمنيت ان تكون الزهرة الحمراء مستوحاة من الطبيعة لكن الحاسوب غلب سرعة حماسي في التعبير عن اعجابي بما كتبت

    1. رأيك بالنسبة لي بمثابة باقة ورد عطرة تشبه الباقات التي أهديتني إياها سابقا على أرض الواقع🤍 شكرا لكرمك الدائم يا صديقتي🌷

  3. مقال جميل جدا وأسلوب سلس يجذب القارئ لمتابعة القراءة
    وطرحت موضوع جدا جدا مهم وتنصب عليه عناية الدولة وقبل اسبوع كان في منتدى الشرق للأواسط الجديد والسعودية الخضراء في شرم الشيخ في مصر وتحدثوا عن تحديات التغيير المناخي ومواجهاتها وكيف ستصل المملكة بحلول عام 2060 الى صفر انبعاث كربوني وتحدث عدد من الوزراء السعوديون وغيرهم عن البيئة والتغير المناخي والاحتباس الحراري
    فعلا وقفت في اختيار فكرة المقال
    راق لي مقال واستمتعت به

  4. حقيقةً اني من محبي الطبيعة جدا بحرا جبلا صحراء شجر واستغرب واغضب بقلة وعي البعض بإتلاف وتدمير ما حوله من نعم وهبنا هيا الله والعقوبات اصبحت امرا لا بد منه للتقليل والحد من تلك الظاهره بوركت اختي مروه على المقال الجميل 🌹

  5. ماشاء الله تبارك الله
    بداية اكثر من رائعة و بالتوفيق و النجاح و التقدم ان شاء الله
    طرح جميل و مقال متكامل الاطراف ( الفكرة ، العنوان ، المحتوي ، اللغة ، العاطفة )

    1. أتمنى أن يترك كلامي أثر ايجابي في نفس القاريء ويحفزه لتغيير العادات الضارة🌷 شكرا لكِ عزيزتي

  6. مقال رائع من كاتبة رائعة .. لو كلنا نتشارك هذا الحب للطبيعة وكان عندنا الاحساس بالمسؤولية تجاهها رح نحقق هذا الانسجام .. رح نكون احنا جزء من هذي الموسيقى الكونية .. وليس صوت النشاز فيها

  7. مقال رائع وفيه تجسيد لجمال الطبيعة وكيف لها ان تحفز النفس البشرية لكل ماهو جميل .. طرح وافي وبالتوفيق 💖

  8. كتابة جميلة ومترابطة سجيت معها إلى النهاية وختام المطاف قررت القيام برحلة برية الى شيخ الارض (الصمان) شكرا لكاتبتنا الراقية ودعائي بمستقبل زاهر مع عمر مديد يكسب عملا صالحا .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى