إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

مرآة داخل مرآة

سار رجلٌ يومًا بين السهول والهضاب، في وضح النهار، وإذا به قد أنهكه التعب والعطش من طول المسير، فقرر أن يبحث عن واحة غنّاء؛ ليستظل بظلها، ويشرب من مائها، وبعد هنيهة رآها أمامه، فاقترب من بركتها الراكدة بلهفة ليروي ظمأه، وبينما هو ينحني بجسده ليغترف من نبعها غَرفةً بيده، إذ به يرى وجهًا على سطح الماء يقترب في نفس اللحظة محدقًا في عينيه، فعاد متوجسًا إلى الوراء، فزعًا من الشبح المنغمر تحت الماء، وبعد كرّ وفرّ عاد بجرأةٍ ليسترق نظرة أخرى حتى يرى بوضوح ذلك الجسد المنعكس على سطح البحيرة، وليتأمل وجهه ذي الملامح المميزة، ويحرك يده فيحاكي حركته وكأنه يلوّح بيده ليلفت انتباهه.

هذا السيناريو المقتضب هو من وحي الخيال؛ لأننا لم نشهد -بطبيعة الحال- اللحظة التي رأى الإنسان فيها انعكاسه لأول مرة في التاريخ على الأسطح البراقة، ولا نعلم تحديدًا متى وكيف خطر على باله اختراع المرآة، والتي أضحى النظر إليها جزءًا لا يتجزأ من روتين يومه، واقتناء المرايا وتعليقها على جدران الغرف خطوة أساسية عند تأثيث منزله، ولكن ما نعلمه على وجه اليقين بأن رؤية انعكاسنا على المرآة هو تجربة متكررة، مقيدة لأرواحنا أو محررة لها، فقد يصاحب النظر إلى أنفسنا سماع أصوات داخلية تعزف كمؤثرات صوتية في الخلفية، تجلد وتنتقد، أو تُطري وتدعم. وربما يزيد الثناء عن حده فيصيبنا الغرور والنرجسية، أو أن نتقلب بين تلك الأصوات جميعًا بتقلب أحوالنا النفسية.

تخبرنا المصادر التاريخية بأن إبان ما يقارب الثمانية آلاف عام ظهرت لأول مرة الأداة ذات السطح الأملس العاكس، أو ما نطلق عليها (المرآة)، بأشكالها المتعددة، واستخداماتها المختلفة، ولأنها تعكس ما يوجد أمامها ثابتًا، كان أم متحركًا، مع بعض الاختلافات البسيطة، نشعر وكأنها نافذة إلى بعد آخر، فارتبطت في كثير من الثقافات بقصص الرعب والأساطير، والعوالم السفلية مثل مرآة زوجة أب سنووايت (بيضاء الثلج) في قصتها الشهيرة مع الأقزام السبعة، حيث كانت زوجة الأب امرأة شريرة تنظر إلى مرآتها السحرية بين الحين والآخر سائلة إياها عن أجمل نساء الكون، وقد تملكها حقد دفين، وغرور طاغٍ تجاه كل من ينافسها على عرش الجمال والفتنة.

الأسئلة المطروحة هنا هي:

ما العلاقة بين النظر إلى انعكاسنا وهوس الكمال؟، وهل هناك علاقة بين النظر في المرآة والصورة الذاتية التي نرسمها عن هيئتنا الخارجية في أذهاننا؟ وهل رؤية الصور سواء كان ذلك من خلال انعكاس على مرآة، أو صور (سلفي) التقطناها لأنفسنا بهاتفنا المحمول، أو صور حية لنا تبث خلال اجتماع مرئي عبر الإنترنت هي تجربة مشتتة للانتباه ومزعجة، ولها أبعاد خفية لا ندركها؟

لنعرفَ الإجابات سننتقل معًا خلال هذا المقال بين الدوافع والآثار، ولنستعرض معًا بعض تلك المعلومات التي قد تغيب عنّا، أو نغفل عنها، وعن تفاصيلها المثيرة للاهتمام.

لو وقف مجموعة من الأشخاص أمام المرآة، وطُلب من كل واحد منهم وصف نفسه وهيئته الخارجية، وما الشعور الذي ينتابه خلال تلك التجربة، لاختلفت حتمًا إجاباتهم كاختلاف جنسهم، وأعمارهم، وأعراقهم، وألوانهم، وثقافتهم، وسماتهم الشخصية. فالمراهق على سبيل المثال سيكون أقل ثقة بنفسه في الغالب، وأكثر قسوة على خلاف الفرد الناضج المتقدم في العمر.

فنقلًا عن مقال من موقع مايو كلينيك نُشر عام ٢٠٢٢م ذكر بأن هناك اضطرابًا يُدعى (اضطراب تشوُّه الجسم) يبدأ عادة في بداية سن المراهقة ويؤثر على كل من الذكور والإناث، وهو مرض نفسي يتسبب في عدم توقف المريض عن التفكير في واحد أو أكثر من العيوب أو النقائص التي يتصورها عن مظهره، وهي في الأساس عيوب بسيطة أو قد لا يراها الآخرون. ولكن المريض قد يشعر بالحرج الشديد والخجل والقلق لدرجة تضطره إلى تجنب الكثير من المواقف الاجتماعية. وأحد أسبابه المتعددة هو سمات شخصية محدَّدة مثل هوس الكمال، والضغط المجتمعي بسبب مقاييس الجمال الرائجة، ورُبما يلجأ إلى العديد من الإجراءات التجميلية في محاولة “إصلاح” العيوب التي يتصورها عن نفسه، وقد يشعر فيما بعد بسعادة مؤقتة، ولكن غالبًا ما يعود إليه الشعور بالقلق، ويواصل البحث عن طُرق أخرى لإصلاح النقائص التي يتصورها. هذا الاضطراب قد يفسر من وجهة نظري الظاهرة المنتشرة في العالم اليوم لتحسين الشكل الخارجي بشكل مستمر ومبالغ فيه، وعلى حساب تجميل نظرتنا الداخلية عن أنفسنا، وصورتنا الذاتية، وليست فقط الصورة المنعكسة على المرآة.

كما ورد في مقال نُشر في مجلة فوغ الأمريكية المختصة بالجمال والأزياء، وتحديدًا عددها الصادر عام ٢٠٢٠م بأنه يجب الاعتراف بأننا نعيش في وقت أصبح فيه لوسائل التواصل الاجتماعي آثارًا سلبيةً على الطريقة التي نرى بها أنفسنا بطبيعة الحال. في حين أن الصور الشخصية (السيلفي)، والفلاتر، وتطبيقات تحرير وتعديل الصور لها تأثير دراماتيكي إضافي على صورتنا الذاتية.

ومن خلال استبيان وُجه لمجموعة من المراهقين والمراهقات، سئلوا من خلاله عن آثار منصات التواصل الاجتماعية على صورتهم الذاتية، ونُشرت إجاباتهم في مقال على صفحات جريدة نيويورك تايمز الإلكترونية عام ٢٠٢٢م، أجاب العديد من أولئك الطلاب والطالبات بقولهم بأن وسائل التواصل الاجتماعي كانت “مؤذية” من خلال الطريقة التي يشعرون بها تجاه مظهرهم خلال انتقالهم بين صفحاتها وصورها، وعلى الرغم من أنهم يدركون أنها لا تعرض الصورة الكاملة، إلا أنهم ما زالوا يكافحون لعدم مقارنة أنفسهم بالأشخاص الذين يرونهم عبر الإنترنت. وقد قالت إحدى المشاركات في الاستبيان: “يخبرونك كيف يجب أن تأكل، وكم مرة يجب أن تمارس الرياضة، وكم يجب أن يكون وزنك وطولك، وما إلى ذلك. لكن في نهاية المطاف آمل أن أتمكن من إخبار أي شخص يهتم بالطريقة التي “يجب” أن يبدو عليها، أو يشعر بالقلق من مظهره بأنه إذا كنت تستطيع أن تكون كما أنت، فأنت مثالي”.

لكن هل يقع اللوم بالكامل على ما يعرض على صفحات الانترنت؟، بالطبع لا، فالعديد منّا يواجه في مراحل مختلفة من عمره انتقادات موجهة ممن حوله تنتقد شكله الخارجي كالوزن، والطول، ولون البشرة، وطبيعة شعر الرأس وما إلى ذلك، والقائمة تطول دون الأخذ بعين الاعتبار التقلبات النفسية، أو الصحية، أو العمرية التي نمر بها، أو ما خُلقنا به وورثناه عن آبائنا، وأمهاتنا، وأجدادنا عبر جيناتنا الوراثية. وهنا يبرز دور الأهل وبالأخص الوالدين، فالنقد الصادر منهما تجاه الطفل له بالغ الأثر عليه، وعلى تكوين صورته الذاتية، واعتداده بنفسه، أثرٌ قد يمتد على مر السنين.

وفي مقال نُشر في مجلة (معنى)، وفي عددها الصادر عام ٢٠٢١م، خمنت الكاتبة بداية اكتشافنا لصورتنا المنعكسة بقولها “ألا يسعنا القول بأن الإنسان قد رأى انعكاسه لأول مره في عينيّ إنسانٍ آخر؟ أن ترى عينَيْن موجَّهتيْن إليك يعني أن ترى نفسك منظورًا إليها. وثمة فلاسفة وعلماء يقولون إنّ فكرة الذات أي إدراك كون المرء شخصًا، تظهر إلى الوجود بمقابلة شخص آخر!”. وأنا أضيف على ما قالت بطرح السؤال التالي: هل هناك عينان أقرب لنا من أعين أمهاتنا وآبائنا لنرى صورتنا من خلالها؟!.

ولنستحضر ما كان يفعل رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إذا نظرَ إلى وجهِهِ في المرآةِ، فقد ورد في حديث شريف أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول: (الحمدُ للَّهِ، اللَّهمَّ كما أحسنتَ خَلْقي فأحسن خُلُقي) ومن ذلك نتعلم بأن النظر إلى المرآة يذكّرنا بأنّ حُسن الخِلقة نعمة من نِعَم الخالق تستحق الشكر والامتنان، ولكن لا تستدعي في الوقت نفسه التقديس والتركيز المستمر، بل يكفينا أن نُضفي عليها بهاءً وحُسنًا بالرضا والقبول، والاهتمام المعتدل، ونزيّنها بالابتسامة الصادقة، والتعامل الطيب، والجاذبية النابعة من نقاء القلب، وحسن السريرة.

بقلم/ مروة الأماسي

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫8 تعليقات

  1. ماشاءالله في كل مقال تفاجئينا بجديد وتميز في الطرح ، الموضوع جديد علي ومافكرت فيه بصراحه ابدااااع

  2. سلمت يمينك
    فعلاً.. حينما نغرق في هوس الشكل، ننسى المضمون. وما أسرع ما انتقل صلى الله عليه وسلم من الخلقة إلى الأخلاق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88