إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الأمومة في مقتبل العمر

ارتدت فستان عرسها الأبيض الجميل، وحولت وجهها ذي الملامح الطفولية إلى وجه امرأة ناضجة باستخدام كل ما تيسر من الألوان ومساحيق التجميل، واختارت تصفيفة شعر مُرتفعة ليزيدها طولًا وشموخًا، ثم لبست التاج المرصّع بالكريستال وحبات اللؤلؤ البراقة المتصل بوشاح طويل شفاف منسدل على كتفيها حتى وصل للأرض، فبدت وكأنها ملكة جاهزة لمراسم التنصيب، والسير أمام جمهورها للإعلان عن استحقاقها للقب الجديد، وعلى الرغم من أنها في مستهل العشرينات من عمرها، إلا أن أقصى ما تعرفه عن الحياة الزوجية هو ما شاهدته حيًّا أمام عينيها في محيطها الاجتماعي الصغير، أو ما قرأته في كتاب يسرد الحقائق بكل جدية وجمود، أو ما سمعته من أشرطة الكاسيت من المستشار الأسري المتسيّد ساحة الإعلام في ذلك الوقت، أو ما تعرفت عليه من خلال المسلسلات التلفزيونية والأفلام، أو ما استطاعت فك رموزه من حديث والدتها مع النساء الأخريات في مجالس الكبار، ولأنها تجهل الكثير دخلت القفص الذهبي بلا هموم تُثقل كاهلها، وقد تزين وجهها البريء بابتسامة عريضة ساحرة، وفرحة غامرة، وكأنها امتلكت العالم بين يديها.

هذه باختصار قد تكون حكاية الكثيرات ممن تزوجن في العشرينات من عمرهن أو ما قبلها، وبلغن الأربعينات أو الخمسينات الآن.

 تمتلك بعض الفتيات عقلًا (يوزن بلد) كما يقال من عمر مبكر، فهل النضج هو المؤشر لجاهزية الدخول في علاقة زوجية؟، وما هي التحديات التي تواجه الأمهات في عمر العشرينات تحديدًا؟، وما هي أهم الإيجابيات والسلبيات لقرار الأمومة في ذلك العمر؟، فالزواج لأي أنثى هو قرار مصيري عظيم، له تبعات لا حصر لها، ولكن هذا القرار قد يصدر أحيانًا في مرحلة عمرية مبكرة، وتحت ضغوط العرف والمجتمع والأهل.

ومن هنا تُطرح تساؤلات عديدة قد نجد لها إجابة وقد لا نجد، ولكنني سأدلو بدلوي خلال هذا المقال، وأسرد ما يمكن الانتفاع به ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

أتمنى لو أستطيع القول بأنّ الحياة الزوجية هي قصة سندريلا بحذافيرها، فبعد أن اختارها الأمير الوسيم، تزوجها وأسكنها في قصره، وعاشوا في تبات ونبات، وخلفوا صبيان وبنات، لكن ما تتمة القصة؟، هل عاشت سندريلا حياة يتغشاها التوافق والوئام طوال الوقت؟!، وهل كانت أمًّا جيدة واستطاعت تربية أطفالها تربية حسنة؟

لا.. ليس بالضرورة، فذلك لن يحدث إلا في عالم الحكايا والخيال، فالواقع يقول بأن الانتقال من حياة العزوبية إلى الحياة مع شريك تحت سقف واحد يتطلب درجة عالية من الوعي، والتواصل الناجح، والمودة والرحمة المتبادلة، والجهد المبذول من الطرفين لضمان الاستمرارية وتلبية كل تلك التوقعات على أكمل وجه. وحتى مع تحقق جميع تلك الشروط تبقى متغيرات الحياة وتقلباتها تهب كالرياح العاتية على العلاقة فتثبت جذورها وتقويها، أو تشتتها وتكشف مواطن الضعف فيها فتتلاشى وتنفصم عُراها.

لا نختلف بأنّ لكل امرأة قصتها الخاصة، وأمانيها وتطلعاتها، وطموحها الذي قد يصل عنان السماء، فهل الارتباط المبكر سيكون دافعًا للتطور أم التقهقر؟، وهل ستتمكن من الموازنة بين الأمرين؟، أن توازن بين أن تصبح زوجة وأُمّا وعضوًا فاعلًا ناجحًا في المجتمع في آن واحد. ربما تفعل. خاصة إذا أخذنا في عين الاعتبار بأن هناك نماذج عديدة حولنا لسيدات برعن في بيوتهن وأماكن عملهن جنبًا إلى جنب، وحققن ما لم تحققه ربات المنازل المتفرغات لدور الزوجة والأم، فبالتعاون بين الزوجين ترسو السفينة في بر الأمان، فلا غنى للمرأة عن سند تتكئ عليه كل ما احتاجت، وشريكًا مُتفهمًا يغض الطرف إذا قصّرت، وأن يكون حاضرًا بروحه وجسده في كل موقف، حضورًا يُشعرها بالتكامل والتقدير.

الحكمة والإلمام بأساليب التعامل الصحيحة مع أهل الزوج هي بمثابة جدار آخر تصطدم به العروس الشابة بلا خبرة أو دراية، فتُصيب تارة وتُخطيء تارة، وقد تجد نفسها تائهة بعد أن تصبح أُمًّا ما بين أن تُطبق ما قرأته من الكتب المهتمة بالتربية وفقه العناية بالأطفال وبين ما تتلقاه يوميًّا من توجيهات وإرشادات من حولها من أصحاب الخبرات والباع الطويل في خلطات الجدات الشعبية المتوارثة جيلًا بعد جيل، والتي قد تتعارض مع ما أثبته العلم الحديث، وبين هذا وذاك تحاول الأم الشابة أن تثبت وجودها واستحقاقها لكلمة الفصل الأخيرة فيما يخص فلذة كبدها وثمرة فؤادها.

إذا اتفقنا بأن الأم الشابة قد لا تكون جاهزة نفسيًّا لكل هذه الأدوار، فهل هي جاهزة جسديًّا؟، فالكثيرات منّا يتزوجن وهن هزيلات الجسم، ويتخذن قرار الحمل بلا دراية كافية بمتطلبات حمل طفل لمدة تسعة أشهر يتغذى وينمو في أحشائها، معتمدًا اعتمادًا كُليًّا على ما يمده به جسدها من عناصر لازمة لتمام نُموه، ناهيك عن حالتها النفسية المتذبذبة بسبب كثرة التحديات والتقلبات المستجدة في حياتها.. ففي مقال نُشر في مجلة سيدتي عام ٢٠٢١م ذُكر فيه بأنّه إذا تعرض الجنين داخل الرحم إلى ضغوط نفسية مستمرة، فالأغلب أنه سيكون طفلاً عصبيًّا، تهدئته صعبة، لا ينام بسهولة، وربما يعاني من نشاط مفرط، وقد يعاني أيضًا من نوبات مغص متكررة. نستخلص من كلّ ذلك بأن الاستعداد الجسدي والنفسي مهمين قبل اتخاذ قرار الإنجاب.

قدّر الله وأصبحت الشابة الفتية أُمًّا ورُزِقت بفضل الله ومَنّه طفلًا جميلًا يتهلل وجهها فرحًا كلما ابتسم لها، ويتعلق فؤادها بحبه حتى أصبحت تنام لنومه وتستيقظ مع بكائه، وبات الاهتمام بمتطلباته هو محور حياتها على مدار الساعة، ومع هذا الروتين الجديد ستجد نفسها قد انعزلت تدريجيًّا عن مجتمعها السابق، وبدأت تُهمل الاهتمام بنفسها لأنه تكاد تكون الأربع وعشرون ساعة غير كافية حقيقة للاهتمام بالمنزل والزوج والطفل معًا، فتُضحّي وتُجاهد لاستعادة البريق الذي فقدته، وتحاول تغطية الهالات السوداء التي تحيط عينيها، لتبدو مُشرقة رغم كل الضغوط. وهنا يبرز دور الشريك المدرك للمسؤولية، فلا يتوانى عن المشاركة الفعلية الجادة في تحمل مسؤولية الثمرة المشتركة، والدعم النفسي المستمر في كل لحظة حتى يكبر الطفل ويشتد عوده، أو يُسخّر بماله من يعينها على تلك المهمة.. وذلك أضعف الإيمان.

(يكبر الصغار وينجلي الغبار) كما يُقال، حيث تمر الليالي والأيام وتكبر الأم الشابة وصغارها معًا، حتى إذا بلغوا المرحلة الجامعية تكون لهم أُمًّا وصديقة، فتقضي معهم أجمل الأوقات، فهي ما زالت تُشاركهم بعض الاهتمامات، وتستطيع التواصل معهم بلغة زمانهم، وأن تكون لهم الناصح الأمين.

أستطيع الجزم بأنّ الأمومة هي تضحية وتطوير في آنٍ واحد؛ تضحية بالراحة الجسدية والحرية وراحة البال، ولكنها في الوقت نفسه تطوير مستمر لكينونة المرأة وصقل لمهاراتها وشحذ لهمتها لتصبح إنسانًا أفضل، وقدوةً ومصدرَ إلهام لأبنائها. وبغضّ النظر عن عمرها عندما أصبحت أُمًّا، فهي قادرة بفطرتها السليمة الاهتمام بطفلها وتوفير أقصى ما تستطيع من الرعاية والاحتضان والحب اللا مشروط. وكما وصفها أحمد شوقي بأنها (مدرسة إذا أعددتها.. أعددت شعبًا طيب الأعراق)، فهي من وجهة نظري أعظم من ذلك، فهي كجامعة عريقة تُصدّر خيرة الناس إذا وجدت بيئة تتفهمها، وتُساندها، وتدعمها، وتُقدّر مكانتها العظيمة.

وأختم مقالي بالقول بأن الأمومة نعمة ربانية، وزينة يتفاخر فيها الناس، ولكنّها أيضًا مسؤولية، وخطوة جادة تتطلب الكثير من التخطيط والاستعداد والتحضير، وتستحق شكر الرازق المنّان، بالقول والعمل، فلنحرص على اتخاذ القرارت الراجحة فيما يخص تنشئة أبنائنا الأعزاء، بلا شعور بالذنب الدائم، والرغبة المُلحة في الظهور بالمظهر المثالي المزيف، ولنعترف بأنّنا بشر نُخطيء ونُصيب، وبأنّ نبع الحنان تحتاج إلى الحنان كذلك والإجلال والحب، بورك في أمهاتنا جميعًا، ورحم الله من وافته المنية منهن، ووفَّقَ فتياتنا الشابات لأن يكُنّ خير خلف لخير سلف.

بقلم/ مروة الأماسي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

‫6 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88