إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

أمي تصنع بخورًا

وداد الإسطنبولي

“خيرُ العملِ ما نَفعَ وخيرُ الهدي ما اتُّبِعَ”  عبد الله بن مسعود

“العمل يبعد عن الإنسان ثلاثة شرور: السأم، الرذيلة، والحاجة”  فولتير

——————————————————————-

آن أوان وقت تفريغ الكلمات التي ترجع بي الى الخلف، والخلف القريب، متأملة ومبتسمة ومتأثرة، يحرق بعض الماء مساحة الخد من العبرات. ولكن ما يخطر في البال يستحق مني هذا العناء، وهذه الحروف المسطرة التي تتبع أثري وتتبع هاجسي، تنتظر مني التفوه بما في جعبتي، فقراءتي لقصة مماثلة لعنوان المقال وهي تحت عنوان: (أمي تصنع شملة) للكاتب والروائي/ خلف القرشي، من المملكة العربية السعودية، بعثت لي فكرة التفكير حيث أحلق بقلمي في سماء الكتابة للتدوين  لما يحمله الفكر، لهذا حبلت هذه الولادة التي تستحق الجهد والعناء لتوثيق ما كانت أمي أيضا تصنعه وتتعب عليه، وهذه قصتها في صنعها للبخور الظفاري التي اهتمت به بعد أن واجهت الحالة الميسورة.. ولله الحمد.

ولكن كانت أيضا قلقه على عمود البيت الذي يحمل مسؤولية عشرة أبناء على عاتقه، فلم يغفل عنها هذا الأمر وإنما أرادت أن تكون ذاك المعين الذي يحمل نصف الجهد والمسؤولية مع شريك الحياة، فتعلمت صنع البخور ومعرفة روائح العطور التي كانت لها موهبة الإدراك في هذا الشأن بالفطرة.

وفي صبيحة يوم حملت صينية متوسطة لدعك المواد بها، وذهبت لإحدى نساء الحارة، امرأة كبيرة في السن، جيران القرب، وكان لها الشكر في تعليم أمي هذه الصنعة الجميلة، وعند تمكنها من هذه المهارة، التي تفوق التلميذ بها على أستاذه؛ فقد كانت روائحها استثنائية وجميلة، يشهد لها خبرة النساء الذين سبقوها في هذه الصنعة وخاصة دخون الحوافير التي اشتهرت بها.

تبدأ عملية الدعك لهذه البخور من غبشة[1] في هذا الوقت نستعد فيه للذهاب للمدرسة وقتها، وأذكر أن  رائحة الحافور تملأ المنزل، فهو يُجلب من البحر؛ فتكون رائحته زفرة؛ تبدأ بغليه في النار ثم تقوم بتنظيفه لإخراج الشوائب منه حين يدفأ، ثم تقوم بفرز كل العطور على حدة حسب نوعية الدخون التي ستصنعها يديها الحبيبتين.

وأذكر عندما وعيت وبدأت أعلم وأستوعب هذا الجهد، تلهف إخوتي الأكبر مني سنا -وتزوجن في وقت مبكر- وانتظارهن لعملية تصنيع البخور؛ فقد تعودن على أن تضع لكل واحدة منهن قصعة[2] بها نصيبها من البخور.

لم يكن لي نصيب يومها فقد كنت صغيرة وفي رعاية والداي.

أنظر اليها يومها وأرى السعادة تملأ ملامحها برغم العمل الشاق المجهد والأعمال الأخرى البيتية، ومع هذا فقد كانت تبتسم برضا وقناعة، وكأنها بهذا تخلد إنجازها وعطاءها ولمساتها على مدى الحياة، والعمر قصير مهما طال.

أمي تركت لنا ذكرى روائحها الخالدة، وشيئًا من الحزن العميق لرحيلها.

ما أودعته أمي روائح جميله عذبة، وهي روائح الدنيا، وهي الآن في ودائع الرحمن؛ وأرجو من الله أن يعطرها  بروائح الجنة.

عاش والداي بسطاء ومعطائين ومضوا بسلام. فاللهم ارحمهما كما ربياني صغيرا.

بقلم/ وداد الإسطنبولي

————————————————–

[1] غبشة: الصباح الباكر

[2] قصعة: علبة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى