زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

أمي شهرزاد .. رحلة البحث عن صناديق الحكايات

أمي هي نافذتي الأولى التي أطللت منها على حياة الغابة من داخل منزلنا الصغير القابع في ركن قصيٍّ من أركانها. أمي هي حكايتي الأولى التي فتحت لي شهيتي وأثارت فضولي لفتح كل صناديق الحكايات التي صادفتها في طريقي وأنا أتجول في الغابة لاكتشاف كل الحكايات المخبوءة في زوايا النسيان والإهمال. أمي هي راويتي الأولى التي روت لي من ذاكرتها الحديدية حكايات قليلة ضاحكة وأخرى كثيرة دامعة: عن موطنها الأول قبل أن تهاجر، عن والديها فيه وإخوتها، عن طفولتها الهادئة الحيية، عن شبابها الباكر، عن انتقالها في ظلمة الليل إلى بلد آخر قريب ومنه في وضح النهار إلى بلد ثالث بعيد، عن زواجها من زوج مغترب، عن حياتها في الغربة وحدها، عن حنينها الدائم إلى بلدها، عن اشتياقها الجارف إلى ذويها، عن مولودها الأول ووفاته قبل أن يولد، عن حزنها المضاعف عليه، عن انتظارها الطويل لي، عن استجابتي ومجيئي للدنيا، عن تخفيفي لحزنها وغربتها بولادتي، عن طفولتي الباكرة وشقاوتي، عن قطتي الوديعة في طفولتي، عن عبثي المجنون مع قطتي، عن صبرها الحكيم على معابثتي، عن أشياء أخرى لا أذكرها الآن بتفاصيلها الصغيرة؛ ولكن ذاكرة الطفل اختزنتها واستوعبت ما فيها من متعة الحكي ولذة القص وجمال الفن، حتى قرأت في مراهقتي (الليالي الألفية) أعني: ألف ليلة، فعلمت أن شهرزاد التي كانت تحكي البدائع والغرائب والفرائد والعجائب لشهريار كل هذه الليالي الطوال ليست بأفضل من أمي.. شهرزادي التي كانت تحكي لشهريارها الصغير كل ما مر بها في تاريخها القصير من حين مولدها إلى حين مولدي، أمي التي لا تقرأ ولا تكتب، لم تتعلم إلا بضع سنين نسيت بعدها ببضع سنين كل ما تعلمته وقرأته، ولم يبق لها مما تعلمته إلا القدرة المتكلفة على تلاوة القرآن وهي تَتَتَعْتَع، وهو عليها شاق.

هوريكا هوريكا!

حسبي من أمي أني أخذت عنها الشرارة الأولى من فن القصة وانطلقت، انطلقت أبحث عن صناديق الحكايات المفتوحة لدى المنفلوطي، والطنطاوي، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب الكيلاني، وعبد الرحمن رأفت الباشا، وعلي باكثير، وهيفاء بيطار، وغسان كنفاني، وآخرين ممن يملكون صناديق جميلة تحتوي على حكايات شيقة وأحداث مثيرة وعواطف جياشة؛ ثم جرؤت على تقليد بعضهم وشرعت بخجل في محاولاتي الأولى في نسج الحكايات وتطريزها، وإخفائها في صندوقي الخاص الذي لم أكشف سره لأحد غير أمي، حتى غدوت أُكثر من نسج الحكايات وكتابة القصة القصيرة دونما التزام حرفي بفنياتها المتفق عليها بين المبدعين والنقّاد: كتبت القصة الاجتماعية التي تعالج موضوعات حياتية، إلى جانب المأساوية التي تعكس جوانب من معاناة المظلومين والمضطهدين في الأرض، بالإضافة إلى الدينية التي توظف القيم والمفاهيم الدينية في بنائها. ثم على حينِ فترةٍ من القصص شاركت في ورشة عملية -حضرتها مؤخرًا عن بعد- للتدرب على كتابة القصة القصيرة جدًّا، هنالك تعلمت أو اكتشفت شيئًا يقارب سروري به فرحةَ أرخميدس باكتشافه المثير حين صرخ بفرح ونزق، وجرى بين الناس عاريًا مثيرًا: “هوريكا هوريكا”!.

جوّعْ نصَّك!

هذا الشيء المكتشف هو أن الكتابة الإبداعية الحقيقية ما هي إلا عملية صقل واعية ومستمرة للخربشات الأولية من مسودات الكتابة الارتجالية؛ ولا تسألوني عن معنى: هوريكا، طالما يمكنكم البحث عن قصتها بأنفسكم.

إلى جانب القصة كنت أكتب قبل الورشة المقالة والخاطرة، وعملت طويلا في الصحافة الإلكترونية، وجُلّ كتاباتي خلالها كانت عفوية ارتجالية تكتفي بمراجعة سريعة وتدقيق لغوي للنصوص قبل تسليمها لجهات النشر المتلمِّظة؛ لأن الصحافة بصفة عامة قائمةٌ على سرعة النشر وسرعة الاستهلاك، فلا بد من سرعة تجاريها في الكتابة وسرعةٍ في التسليم.

أما الحفر والنقش، وإعادة الصياغة والصقل، ومعاودة البناء والهدم، وغربلة الكلمة والعبارة، وتكرار الحذف والإضافة، وتجربة التقديم والتأخير؛ فكل أولئك أمور ثانوية ومضيعة للوقت لم تكن واردة ضمن طقوس الكتابة المعتادة لديّ، حتى بدأت أتدرب بتوجيه من ملهمي القاص البارع الأستاذ/ خلف سرحان القرشي، على كتابة القصة القصيرة جدًّا، بتكثيف واختزال وتجويع للنص الرهيف الرشيق، بمنعه من أي بادرة ميل للترهل المذموم في الجمل والكلمات؛ وهنالك فقط أدركت معنى الحرب الشرسة الدائرة بين الكتاب المشاهير في العالم وبين نصوصهم الإبداعية المتقنة التي ينشرونها بعد محاولات مستميتة ومتكررة للتجويد والتحسين والتطوير، وكأنهم ينحتون تمثالًا مكفهرًّا في صخر قاسٍ، لا نصًّا بشوشًا يكتبونه على ورق ناعم.

قزم عملاق!

من بعد الورشة غدوت أعيش اللحظة الفارقة التي يعمل عليها القاصّ في قصته، لم أعد الشخص نفسه الذي كنته قبلها، ما عدت قادرًا على الانطلاق في الحياة على سجيتي، أصبحت أدقق في كل شيء حولي، صرت أبحث عن قصة قصيرة مخبوءة أو مختفية أو منسية أو منتظِرة في ثنايا نص أقرؤه، أو سورة من القرآن أتلوها، أو مقطع مرئي أشاهده، أو مسمع صوتي أنصت إليه، أو حوار عادي أجريه أو … لأنتهي إلى اكتشاف أن صندوق الحكايات كامن في داخلي أساسًا، أفتحه متى شاء، وأطلق منه الحكايات الحبيسة حمائم طليقة حينما أشاء.

من اللحظات الفارقة في حياة الإنسان التي تشكل عمرًا إضافيًّا لأيامه المتصرمة؛ تلك اللحظات التي يعيد فيها اكتشاف نفسه مجددًا، ويتعرف على مواطن القوة والضعف لديه، ويضع يده على المواهب والمهارات التي يمكنه صقلها وتطويرها والاستفادة منها. هل كنت أكتب قبل الورشة وأبحر بين الأجناس الأدبية المختلفة في النوع والطول؛ لأرسو بقاربي في هذه اللحظة الزمنية من عمري على ميناء القصة القصيرة جدا؟

كثيرًا ما كنت أمارس عمليات القص والتشذيب والتكثيف والاختزال وأنا أحاول التغريد في تويتر بمعنى كبير يحمله وعاء من اللفظ صغير؛ وها أنذا أجني ثمرة تلك الممارسات المتعِبة خلال محاولاتي المستميتة حاليًا لإبداع نص قصصي قصير جدًّا يمكنه أن يحمل أو يشي بمعنى كبير في باطنه، نصٍّ مجهري هو في ظاهره قزم قميء، وباطنه عملاق كوني مارد!.

أختم بقصة قصيرة جدًّا.. كتبتها عقب حضور الورشة المشار إليها، فاستحسنها المدرب وأثنى عليها.. عنوانها:

داخل مخيم

– كم الساعة؟

– الواحدة وستون عاما!

إنها في الظاهر سبع كلمات فقط مع العنوان، وتسمى قصة قصيرة جدًّا؛ ولكنها في ذهن المتلقي إذا انطلق بها خياله تنطوي على حياة كاملة يمتد عمرها لستة عقود من الزمن بما فيها من معاناة وتفاصيل مأساوية يومية يعرفها أهل المخيمات ومن يتفقد أخبارهم. القصة عادية جدًّا لولا الكلمة الفارقة التي صنعت المفارقة المدهشة في نهاية القصة، وأطلقت كل مخزوناتها الحبيسة داخلها.

حياة مديدة وقصص جميلة أرجوها لكم في رحلة بحثكم عن صناديق الحكايات.

بقلم/ إبراهيم حافظ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88