تشكيل وتصويرفن و ثقافة

فنون بصرية “محمد سيام” واقعية يغلفها الخيال

يرتكن الإبداع الفني في جزء منه لفطنة الفنان حول طرق التناول والتوظيف، ومهارته في التنقيب عن معادلات وشروحات بصرية تصدح بانفعالات وأحاسيس، تنقل الجمهور وجدانيا وعاطفيا، وتحفز القدرات الفنية والتعبيرية لتنحو أطروحاته بعيدا عن تقليد المظهرية الخارجية للعناصر، والغوص في أغوار المكنونات لاستنطاقها، وصياغة ملمح إبداعي يعضد سحر الشرق الأسطوري.

وكدرب لاستحضار الأفكار وتمهيد الجسر للمخيلة لطرح التراكيب التعبيرية في طلاقه وأصالة تدلل على غزارة تجليات المخزون البصري وعرض الحكايات الأسطورية النابضة التي تنطلق من المحيط البيئي عبر واقعية تتطور لتصل لأساطير يغلفها الخيال ويعززها فعل التعبير، نحي “محمد سيام” عن المحاكاة لعناصر الطبيعة أو استحضار مفردات التراث دون دراسة لمفهومها وقيمها الجمالية ليستفيض عبر دراسات تأملية، ووعي لجوهر الطبيعة والتراث واستكشاف موضوعات تعضد هوية الذات عبر مستويات من الاختزال التجريدي الذي يفصح عن طاقات تؤطرها أحاسيس حالمة.

محمد سيام” الواقع الزمكاني وتصور الفنان حول الموجودات

ولد “محمد بن عبدالرحمن سيام” عام 1954م في المدينة المنورة، وتلقى بها تعليمه الأولي والمتوسط، ثم حصل في الرياض عام 1974م على دبلوم معهد التربية الفنية، وتوفي عام 2011م، وعمل في مجال التدريس كمعلم لمادة التربية الفنية، وله مشاركات في العديد من المعارض، منها: “معارض الرئاسة العامة لرعاية الشباب، معرض المغرب العربي، المعرض السابع للفنان العربي بالكويت، معرض المراسم بأبها، المعرض السعودي المعاصر، مسابقة أبها الثقافية، معرض جماعة فناني المدينة المنورة في مهرجان المحبة، معرض الفن السعودي المعاصر”، وحاز على جوائز من الرئاسة العامة لرعاية الشباب ومطار الملك عبد العزيز الدولــي بجــدة ومطار الملك خالد الدولــي بالرياض.

ويعد “سيام” رائداً راديكالياً ذا تأثير فاعل في خارطة الفنون البصرية السعودية، وتمحورت أعماله حول طبيعة المدينة المنورة والمظاهر الاجتماعية الاحتفالية بها، مستلهماً الواقع المحيطي والبيئة الزمكانية المحلية، وكل ما تقع عليه عيناه في إطار قناعاته الفنية لتكسب الممارسة المتواصلة لسيام خبرات في توليف عناصره الفنية في بانورامية للأماكن المقدسة، والبنائيات المعمارية، وبعض المظاهر الاجتماعية كالرقصات الشعبية والاحتفالات، وركوب الخيل، ونزهة المراكب الشراعية، وشخوص مع آلات موسيقية عبر إيماءات متنوعة عبر استلهام مفردات تمثل تصور الفنان حول الموجودات لتشكل رؤية الفنان منطلقاً من واقع محيطي زمكاني شاحذ للقريحة الإبداعية أثناء التخطيط وبنائية العمل لاستحداث مدخلات تؤسس لمسار عضوي تتعايش فيه العناصر بقيمها الفنية، وتكون عاملاً مؤثراً في إدراك المشاهد.

“محمد سيام” تجليات المخزون البصري والحكايات الأسطورية النابضة

نشأ “محمد سيام” في بيئة مفعمة شكلت عقلية ووجدان الفنان، وألهبت خياله ووفرت له الصفاء والنقاء والبراح الذهني، لتتفجر وحدات البناء لديه ويستلهم رموزه وعناصره الدالة من سرديات الحياة اليومية السعودية بخصوصيتها، والتي تدلل على القدرة المكينة في استحضار طقس وتجلٍ يصل لاستكشافات نظرية وبصرية لموضوعات نابضة فبدأت أعماله من الدراسة الواقعية الوصفية معتمداً على تخيله الشخصي، لتخلط الأشكال في بوتقة واحدة وتصهرها خبرة الفنان، وفق منظومة البناء الفني للعمل الخاصة بالفنان والممهورة برؤيته الخالصة، في بنائيات تدعم عناصر البيئة السعودية بلغة بديعة.

فاستطاع الفنان بلورة أسلوب يجمع بين الأصالة والمعاصرة، فداخل فضاءات أسطورية حالمة تعزز فعل التعبير النابض، سطرت المنجزات البصرية لـ”سيام” حقائق العالم ونسج براح روحي ذاتي من الوجداني الداخلي، وإعلاء المشاعر والتخلي عن الصخب السردي، فما تراه العين من مظاهر في تفصيليات الطبيعة ليست حقائق ثابتة لذلك، بل قشرة تستوجب تقديم البدائل التعبيرية والمفاهيمية التي تجسد الحقيقة وترممها بوضوح مكين يعلي ترابطية النسق البصري واقتران المحتوى الفكري به.

فالبحث في ماهية الشكل الجمالي للمفردات هو بحث سطحي يفتقد إلى التحليل والتفهم، يستوجب التفهم الواعي للمحيط الثقافي قبيل محاولة التعامل معه كمصدر للثراء الإبداعي، لذا فقد سطرت أطروحات “محمد سيام” فلكلورية تضفر خيوط الماضي مع الحاضر، وقيم وصوتيات الموروث مع المعاصر عبر مدارات حداثية تنحو عن الاتباعية والواقعية الظاهرية للوصول لمكنونات لغته البصرية التي تحيز لها لصياغة مدارات حالمة أسطورية تعزز شخوص العمل وإيماءاتها التأملية داخل فضاءاتها الروحانية.

وعبر خطابات أثراها التدفق الإبداعي والخيال الأسطوري استدعى الفنان مشاهد بصرية تحتضن عناصر بيئية استقى روافدها من منابع زمكانية اقتحمها الفنان لتدشين أجواء حالمة، نسج فيها عوالم أسطورية تنتهج الموروث عبر راديكالية ودينامية التعبير لتحقيق قيم جمالية تدعمها استنطاق مكنونات الذاكرة الحسية.

“محمد سيام” براح روحي لإعلاء المشاعر والتخلي عن الصخب السردي

عندما أشار “أفلاطون” إلى أن الخصوصية الذاتية في الفن تكمن في التقليد، وأن حقائق الأشياء هي المثل والحقائق الأولى لشحذ الحقائق كأفكار مجردة، وأن هذه الأشياء المحسوسة هي محاولة لإبراز تلك الأفكار إلى عالم المادة، تجلى جهد “هيغل” الفلسفي في تناول الفن إبيستمولوجيا بما يروم استجلاء المقام المعرفي للفن الذي تصوره على هيئة المحسوس الروحي، فالفن لا ينفصل عن المحسوسات.

لذا انطلقت اهتمامات “محمد سيام” عبر صيغ واتجاهات فنيه متنوعة لترتسم عدة أعمال لديه بالتأثيرات المباشرة للتكعيبية التي عكف عليها “براك، بيكاسو، ليجيه” كطليعة فكرية تبنوا تحولاً جذرياً في الفن بتبنيهم مفهوماً جديداً للشكل وللعمق، حيث أصبحت البنية التوافقية للوحة كالقطعة الموسيقية هي الأساس، متخلية عن كل صور التقليد لأنه يرى أن الأثر الفني يحتفظ بقيمته لذاته وليس لمضاهاته للواقع، لتمثل التكعيبية حسب إشارات “بيكاسو” وسيلة تعبير عما تراه أعيننا وعقولنا، بما تستطيعه من إمكانات التصوير والألوان، والاعتماد على استخدام حيل المنظور لتحقيق الإيهام بالواقع والخصوصية في طريقة الرؤية واستيعابها، ورؤية الطبيعة بالفكر بحث عن جوهر الموضوع وليس ظاهره المرئي.

وعلى الرغم من تعدد السطوح وتراكب جزئياتها يبقى التكوين متماسك بصورة مقنعة للمتلقي، والنحو عن استخدام حيل المنظور الهوائي للتعبير عن العمق، والتخلي عن الإفراط في الهندسة، والاتجاه نحو الأصول الطبيعية أو المتخيل عن الواقع، الأمر الذي سماه “أبولينير” (الواقعية المعمقة) التي تتحول إلى “روحانية مشرقة كدفقة صافية”.

فالفنان “سيام” لا ينقل الشيء المرئي بل الفكرة الكامنة وراءه، وحتى الجوانب المخفية منه، فارتكل للتسطيح وعدد زوايا الرؤية في نفس التكوين، ليبدو الشيء ظاهراً من كل جوانبه، وتفكيك الألوان ثم إعادة تركيبها بمزاجه الاختزالي الخاص، وتقدير الخط والشكل كأهمية باعتبارهما ذهنيان، مع تحييد الألوان والأضواء باعتبارهما حسيان.

وحول نظرية المذهب التعبيري التي أقامها الروسي “ليو تولستوي” بأن الخصوصية الذاتية في الفن تكمن في نقل الإحساس الداخلي للفنان إلى المتلقي، لتنتقل مهمة العمل الفني عندما ينقل شعور الفنان للجمهور، لتدشن قاعدة الفن على سراية الإحساس مستعينا بالعلامات الظاهرية المحددة من هذا المنطلق شق الفنان “محمد سيام” في أعماله مدخلا في محاولاته التعبيرية التي تتكئ على اللون وقوة الانفعال والحركة التلقائية أو”التجريد الغنائي”، ليصبح عالم اللوحة عالما خاصا ينطلق من الصلة المباشرة بالمادة فتصبح التقنية والتجريب مقياسا لقيم العمل وتتحول الأشكال الحرة المحفزة على الإبداع لصور فنية بفعل الميثولوجي.

الحلم الأسطوري الرومانسي في أطروحات “محمد سيام”

لشغف الفنان الحالم دوما بالخيال، وعدم قناعته بالمحيط الواقعي، انبثق الخيال كدرب لبلورة وتسطير الأفكار وصقلها وشحذها من مستوى لمستوى تالٍ، ويصبح الفن ذلك النتاج ما بين الفنتازيا الممتزجة بالواقع، أي فنتازيا تتناول الواقع الحياتي من رؤية غير مألوفة ومعالجة إبداعية خارجة عن المألوف للواقع المعاش.

فأساليب التجريد والتحليل والتفكيك وإعادة التركيب والتسطيح هي من طرق المعالجات البصرية التي اعتمد عليها الفنان ليعدد وينوع من صياغاته، فالفنان مشحون بالثقافة السعودية، ويعبر في طلاقة بخطوط مفعمة تصدر البهجة والفرح في صياغة عناصره.

وبجانب التصورات ذات النهج التكعيبي والرمزي والتجريدي، اصطبغت أعمال “سيام” بالحلم الأسطوري والخيال المحلق السريالي، على أعمال “سيام” ليتأتى التعبير عن النفس بعيدا عن الرقابة التي يفرضها العقل، والغوص في أعماق اللاشعور للتنقيب عن مصدر إلهام للفنان عبر التجول في بواطن العقل، بصورة صادقة بإطلاق العنان لأدواته بالتعبير، فظهر الفن البصري عبر الأسطورة، ووسيلة لتجسيدها، وتشخيص أفكاره ومشاعره، لتحويل المواد الأولية لأشكال صورية، لتتمكن الأسطورة كمصدر قصصي سردي يمتلك مقومات فكرية يمكنه تعزيز قدرات وإمكانات العمل.

فعند “كولنجود” الخيال درب للمعرفة، يعمد إلى الأشياء التي يحسها الناس، ويرفعها أمامهم من قرارتها الغامضة إلى وضح الوعي والتصور المبين، ليمثل بذلك عالم الأساطير بالنسبة لـ”محمد سيام” القالب الساحر الذي يشحذ مخيلته وينقله لعوالم أثيرية تنحو عن الواقع، توازيا للمشاعر والانفعالات عن الموجودات من حوله، لما تطرحه الأسطورة من إجابات عن ذلك التناقض بين الممكن والخيالي والواقعي، متجسدة بقصص وسرديات، تفند المسببات ليتم صياغتها في خياله كحكاية توازي فهمه الخاص، ويستحضر الفنان شجنه في صياغات أسطورية خاصة، ينسجه على وقع حنينه إلى عوالم بيئته، التي تتشكل من كائنات وشخوص تسللت من روافد وحكايات حالمة تؤطر المشهدية، وتوحي في جلل بالحلم والخيال المفعم الصيروري.

*الأستاذ بكلية التصاميم والفنون المساعد – جامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88