إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

حلم رسا على شاطيء الواقع

مروة الأماسي

وقع اختياري ذات يوم على فيلم سينمائي استرالي بعنوان (True Spirit). وهو فيلم تحفيزي ملهِم اقتُبس من أحداث واقعية. يبحر المُشاهد حقيقةً وليس مجازًا مع تفاصيل القصة التي سطرتها بطلته الفريدة، فتُثير في بعض أحداثه الحيرة والجدل، بينما تدفعنا في أجزاءٍ أخرى للتأمل والأمل.

وقد اتّضَح لي فيما بعد من خلال البحث بأنّ هنالك قصة حقيقية أخرى مماثلة حدثت في وقت متقارب مع تلك التي سُردت في الفيلم، و تيسر لي لاحقًا مشاهدة فيلم وثائقي عنها بعنوان (maiden trip).

يعرض رحلةً قامت بها فتاة شابة ثانية من بلدٍ آخر، ويلخّص لي كل ما أردت معرفته عنها، بالإضافة لوجود العديد من مقاطع الڤيديو الأخرى لها على منصة اليوتيوب. فقد أضحت الفتاة مع مرور الأعوام سيدة ناضجة، ومتحدثة مُلهِمة على منصات الخُطب التحفيزية المختلفة.

فالأسئلة المطروحة هنا هي: من هي بطلة الفيلم الوثائقي؟ وما هي الرحلة التي جعلت من قصتها مادة تُناقَش في المقابلات التلفزيونية والمحاضرات؟، وهل الأحلام بشكل عام هي رغبة متأصّلة فينا لتحقيق أمر ما، وتنمو معنا منذ نعومة أظفارنا؟ وماهي الأدوات التي نحتاجها لترسو أحلامنا على شاطئ الواقع فتتحول إلى حقائق ووقائع؟

لنستطيع الإجابة على مثل هذه الأسئلة سنتعرّف معًا على قصة “لورا ديكر” الفتاة الهولندية ذات الأربعة عشرة ربيعًا، والتي وُلدت في قاربٍ في نيوزيلندا أثناء رحلةٍ قام بها والداها حول العالم، ووُلد معها حُلمها الكبير بالإبحار، لتكون أصغر بحّارة منفردة تُبحر حول العالم، والذي سبّب ضجة إعلامية في موطنها هولندا عام ٢٠١٢م. أريد التوضيح ابتداءًا بأنّي لست هنا لأعارض أو أؤيد فكرة حلمها الجريء، ولكنّي سآخذكم معي في رحلة استكشافية تأمُّلية لأهم الدروس والفوائد من القصة العجيبة لصاحبة لقب (أصغر بحّارة مُنفردة حول العالم).

يقول الشاعر أبو العلاء المعري:

وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا …. عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ

فقد نشأت لورا بين أبوين مختلفين لا يشبهان بعضهما، فقد كان والدها بحّارًا مُحنّكًا يعشق البحر والأمواج والموانيء والسفن، بينما كانت والدتها على النقيض تمامًا تكره الإبحار وتُعاني من دوار البحر بسببه باستمرار، وهذا التنافر بينهما أدى إلى الانفصال، فاضطُّرت لورا للاختيار بينهما، فاختارت العيش مع والدها لأنها تشبهه كثيرًا، فهي تعشق البحر مثله تمامًا، وتعلمت منه كل المهارات اللازمة لتشق طريقها المستقل فيه فيما بعد. وهذا دفعني للتفكير في ضحايا الطلاق من الأطفال، وعن أهمية البقاء مع الطرف الذي يستطيع التحدث مع الطفل بنفس لغته، ويشاركه اهتماماته، ومن جانب آخر تذكرت ضغط بعض الأهالي على أبنائهم للعمل في نفس المهن التي اختاروها لأنفسهم، والتدخل الغير منطقي في اختيار التخصص أو المهنة بحجة الخبرة والمعرفة، متناسين بأن ذلك الابن أو تلك الابنة ليسا بالضرورة نسخة مكررة منهما، وبأن الحياة تُصنع بالتجارب والإخفاقات وخوض التحديات وليس بالوراثة والتبعية.

عاشت لورا طفولتها ومراهقتها بقرب البحر، فقد كانت تساعد والدها في صيانة وإصلاح القارب بشكل يومي، وتتدرب على الإبحار في قاربها الخاص بموازاة الشاطيء مع كلبها أو بمفردها. كما تسنّى لها المشاركة في عدد من مسابقات الإبحار بالقوارب الشراعية المحلّية وحصدت بعض الجوائز. ومن هنا نفهم من أين استمدت تلك الثقة العظيمة بالنفس عندما عقدت العزم بأن تكون أصغر فتاة تبحر حول العالم منفردة. لم يأتِ ذلك الحُلم من فراغ، بل من عمل دؤوب مستمر، وأُلفة ومودة متبادلة بينها وبين البحار والطبيعة. هذا التعود يفسّر الجرأة التي تفوق عمرها بمراحل.

هذا الحلم الكبير ما لبث أن فتح النار عليها وعلى والدها من كافة الاتجاهات، فقد واجها عاصفة إعلامية شرسة بعد إعلانها خطتها المفاجئة، واحتاج الأمر عشرة أشهر من المرافعات في ساحات المحاكم، والأخذ والرد مع مجلس حقوق الطفل قبل السماح لها ببدء الرحلة، هذا بالإضافة للتنمُّر ووصفها بأنّها عنيدة ومجنونة ومتهورة ومدللة ومتوهمة وغيرها من الأوصاف القاسية التي تكشف حجم الاستهجان لقرارها بالإبحار وهي ما زالت في سن المراهقة. ولا بد أن نتفهم هذا الهجوم المبرر فالحلم كان أكبر من استيعاب أي شخص لا يعرف إمكانياتها وقدراتها.

بلغت لورا السادسة عشرة من العمر، وأصبح قاربها الذي يبلغ طوله اثنا عشر مترًا جاهزًا، والذي قام والدها بشرائه مستعملًا وفي وضع سيء لثمنه الزهيد، وعملا معًا قرابة الشهر على تجديده بالكامل، فوقعت في حبه وأسمته (چابي). استلهمت لورا خط سير الرحلة من رحلة قام والداها بها قبل عشرين عامًا، كما قامت بدراسة الخرائط ونظام الملاحة، وتجهيز مستلزمات الرحلة الطويلة مثل: الطعام، والوقود، ووسائل الاتصال بالاقمار الصناعية، وما إلى ذلك. وبعد كل ذلك الجهد الشاق جاءت لحظة الانطلاق وبدأت الرحلة العجيبة والتي استغرقت عامين كاملين، وقطعت خلالهما المحيط الأطلسي والبحر الكاريبي، وعبرت قناة بنما لتصل إلى المحيط الهاديء، ومنه إلى المحيط الهندي إلى جنوب افريقيا، لتعود مرة أخرى إلى البحر الكاريبي عابرة خلال تلك الرحلة الاستثنائية المحيطات الثلاث الكبرى!.

تعلمت لورا الكثير عن نفسها والعالم من حولها خلال رحلتها الطويلة، فلقد كانت توثِّق يومياتها باستخدام كاميرا الڤيديو، وتتواصل مع والدها باستمرار لاخباره بالمستجدات واستشارته وطمأنته. وهذا يقودنا للاعتراف بأهمية التقنية الحديثة في هذه التجربة، فقد كانت عاملًا رئيسيًا في بقائها على قيد الحياة، إلى جانب مهاراتها وذخيرتها المعرفية الغزيرة في إدارة الأزمات، والتغلب على الصعوبات وهي تشق عباب البحار، وأمواجه العاتية، وأمطاره الغزيرة، وعواصفه العنيفة. واختبرت العديد من المشاعر الجياشة المتقلبة، فشعرت بالوحدة أحيانًا والحنين للوطن، وفي أحيان أخرى شعرت بالامتنان والرضا، والتكيف وتقدير أصغر الأمور، كما أحسّت في بعض الأيام بانعدام قيمة الوقت، والضعف أمام تحديات الطقس، ولكن شجاعتها كانت حقًّا مثيرة للإعجاب فلم تشعر بالخوف لأنها كانت تمارس أمرًا شغوفة به، وتشعر بالانتماء القوي إليه، وتؤمن بأنّها في مكانها الصحيح. تعلمت لورا أيضًا من الإبحار الصمت الطويل، والشعور بالانطلاق؛ مما جعل التواصل الاجتماعي صعبًا عليها فيما بعد. كان تأملها للمخلوقات والطبيعة من حولها أمرًا استمتعت القيام به، كما تغير منظورها للمال والأمور المادية كثيرًا، ووصلت لقناعة بأن السعادة ليست في الجري وراء جمع الثروات، بل قد تكون في أبسط الأشياء.

زارت لورا خلال رحلتها العديد من الجزر والمدن الساحلية للحصول على الإمدادات، واستكشاف أماكن جديدة، والتواصل مع أشخاص يشاركونها نفس الاهتمامات، وأصبحت أكثر انفتاحًا على الثقافات الأخرى، وكونت العديد من الصداقات.

ختامًا عادت لورا بعدما قطعت آلاف الأميال، متخطية عشرات العقبات والتحديات، ووصلت إلى بر الأمان، وفي استقبالها حشود من المعجبين والمهللين، والإعلاميين والمصورين لالتقاط لحظة عودتها لنقطة البداية، وفي جعبتها العديد من الحكايا والتجارب والخبرات، والتي شاركت بالكثير منها في مختلف المحافل والمقابلات، ومما أثار إعجابي أكثر من أي شيء آخر هو المؤسسة التي أنشأتها بعد عودتها من رحلتها الطويلة، والتي شملت برنامجًا مُخصصًا لتدريب الفتيات على العمل الجماعي، والتواصل كفريق، وصناعة أفكارهم الخاصة، والتعبير عنها. فما أجمل من أن تُثمر قصة النجاح وتتحول إلى قصص نجاح أخرى صغيرة، وأن تساهم بنشر الوعي بأهمية اكتساب المهارات اللازمة لتحقيق الإنجازات على كافة المستويات.

انتهت قصة لورا بين مؤيد ومعارض، وتحقق حلمها الضخم بحجم المحيطات التي قطعتها، ولعلّنا تخيلنا أنفسنا نبحر معها في ذلك القارب الصغير، وقد تزوَّدنا ببعض الدروس المستفادة، والحكم المستقاة. وهذه هي أعزائي باقتضاب قصة أصغر بحارة منفردة في العالم.

بقلم/ مروة الأماسي

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. قصة جميلة جداً و مثيرة و محمسه ونتعلم منها الكثير من الدروس و العبر 🌹
    شكراً للكاتبة مروه على حسن الاختيار و السرد و التشويق 👍🏻
    … سوف أشاهد الفيلم قريباً ان شاء الله …

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى