ابن بطوطة الرحالة المُغامر

ابن بطوطة هو رحالة مُغامر، ومُؤرخ عريق، وقاضٍ، وعالم مُسلم من أبرز مُستكشفي العالم الإسلامي في مُنتصف القرن الرابع عشر.
اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية
ابن بطوطة هو أعظم الرحالة المسلمين قاطبة، وأكثرهم طوافًا في الآفاق، وأوفرهم نشاطًا واستيعابًا للأخبار، وأشدهم عناية بالتحدث عن الحالة الاجتماعية في البلاد التي تجول فيها. حقًّا إنه لم يكن فقيهًا دقيق الملاحظة سليم الحكم مثل ابن حجر، ولكن حديث رحلاته الطويلة غني بالأحداث، يشع بالحياة، ويشهد بأن ابن بطوطة كان من المغامرين الذين لا يقر لهم قرار، ومن الذين يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في الاستمتاع بالحياة إلى أن يركبوا الصعب من الأمور.
ولد محمد بن بطوطة في مدينة طنجة سنة (٧٠٣ﻫ/١٣٠٤م) من أسرة عالية، أتيح لكثير من أبنائها الوصول إلى منصب والنبوغ في العلوم الشرعية. غادر وطنه سنة ٧٢٥ﻫ لأداء فريضة الحج، ولكنه ظل حول ثمانية وعشرين سنة في أسفار متصلة ورحلات متعاقبة. وألقى أخيرًا عصى التسيار بما كان فيه ابن بطوطة يقصه من أحاديث أسفاره، فأمر كاتبه محمد بن جزي الكلبي أن يدون ما يمليه عليه هذا الرحالة. وتولى ابن جزي كاتب السلطان رواية الرحلة وتلخيصها وترتيبها وإضافة بعض الأشعار إليها وتحقيق بعض أجزائها مستعينًا بكتب الرحلات المعروفة في ذلك العصر، ولا سيما رحلة ابن جبير.
ثم سماها «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وفرغ منها سنة (٧٥٧ﻫ/١٣٥٦م) وختمها بعبارة أجزل فيها الثناء على ابن بطوطة، ولم ينس مولاه السلطان، فافتخر بأن ذاك الرحالة اختار الاستقرار في دياره دون غيرها.
مكانة الترحال عند ابن بطوطة
“كان ابن بطوطة من المُستكشفين ممن طافوا الأرض مُعتبرين، وبحثوا مُختبرين في فِرَق الأمم، وساروا سير العرب والعجم، واستعان بعزمه على الترحال بما له من الفضل والمزايا، وآثر السفر على السكينة والاستقرار، ليطوي المشارق إلى مطلع بدرها في المغرب، ويختار بعد طول اختبار أن يجوب البلاد ويُشاهد الخلق، فغمره من الإحسان والامتنان ما أناساه ماضيه وغربته، وأغناه طوال فترة ترحاله، وجعله يُحقّر من كان يستعظمه، ويصل إلى كل ما كان يتوهمه، ليظفر بالصيت الحسن بعد عناء سنوات طويلة من السفر والترحال، فبات يملي على الآخرين ما شهده في أسفاره، وما استقر بعقله من نوادر الأخبار، ويُخبّرهم عمن التقى بهم في رحلاته من الملوك الموقرين، وأصحاب الفضل من الأولياء الأبرار والعلماء الأخيار، ليكون محط إصغاء المُستمعين ويُنزّه بمغامراته خواطرهم، ويُسعد بغرائبه وعجائبه نواظرهم، ولم تذهب جهوده ومغامراته العظيمة هباء الرياح، بل أرخت جميعها على يد محمد بن محمد بن جزي الكلبي الذي دون سيرته الاستكشافية والجامعة لنسبه الصحيح، ثم صنفها بعناية بحيث تكون شاملة ووافية ومُهذبة الكلام وواضحة المعاني؛ حتى تستفيد منها الأجيال من بعده، ويكون علمه وسفره وكل ما ظفر به من أخبار، وحوادث، وصدف، ومعلومات، وغرائب نافعًا للغير ومحفوظًا على مر التاريخ”.
وقام ابن بطوطة برحلات من بغداد إلى تبريز والموصل ونصيبين وسنجار وماردين، ثم رافق ركب الحاج العراقي إلى الحجاز فأدى الفريضة ثانية، وأقام يدرس بمكة سنة كاملة. ثم حج مرة ثالثة، وركب البحر إلى اليمن مارًّا بسواكن، وأشار إلى أن البحر في هذه المنطقة لا يسافر فيه ليلًا لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر. فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب.
وزار الرحالة زبيد، وقال: إنها أملح بلاد اليمن وأجملها، وليس في تلك البلاد بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها. وأعجب بجمال نسائها وبقبولهن تزوج الغرباء. وغادرها إلى صنعاء وذكر أن أرضها مبلطة فإذا نزل المطر غسل جميع أزقتها وأنقاها. وطبيعي أن يلاحظ ابن بطوطة — وهو الناشئ في إقليم البحر الأبيض المتوسط حيث يهطل المطر شتاء — أن المطر ببلاد الهند واليمن والحبشة إنما ينزل في أيام القيظ.
وقابل الرحالة سلطان اليمن في صنعاء ووصف بلاطه وترتيب الطعام فيه ثم أضاف: «وعلى مثل هذا الترتيب ملك الهند في طعامه؛ فلا أعلم أسلاطين الهند أخذوا ذلك عن سلاطين اليمن، أم سلاطين اليمن أخذوه عن سلاطين الهند.»
وسافر ابن بطوطة إلى عدن وأشار في وصفها إلى ثروة التجار فيها، ثم عبر البحر إلى زيلغ بالصومال الإنجليزي الحالي، ووصفها بأنها أقذر مدينة في المعمور وأوحشها وأكثرها نتنًا «حتى إنه اختار المبيت بالبحر على شدة هوله ولم يبِت بها لقذرها»، وسافر بعدها إلى مقدشو عاصمة تلك البلاد (وهي تقع على ساحل المحيط الهندي). ونزل بأمر السلطان في دار الطلبة، وهي معدة لضيافة أهل العلم. وغادرها إلى جزيرة منبسي ثم إلى كلوا على ساحل أفريقية الشرقي جنوبي خط الاستواء، وأهلها من الزنوج. وقال الرحالة عن المسلمين منهم: إنهم «أهل جهاد؛ لأنهم في بر واحد متصل مع كفار الزنوج».
وعاد ابن بطوطة إلى بلاد العرب طائفًا حول سواحلها الجنوبية والشرقية ومارًّا بمدينة ظفار، وعجب لأنه رأى الدواب والغنم فيها بسمك السردين، وتحدث عن تجارها مع الهند وعن سلطانها. ثم مر بهرمز وسيراف والبحرين، ووصف الغواصين على الجوهر، وعبر الخليج الفارسي إلى القطيف في إقليم اليمامة، وانحدر منها إلى مكة فأدى الفريضة مرة أخرى وشاهد السلطان الناصر محمد يحج ومعه طائفة من الأمراء والمماليك.
وأراد ابن بطوطة أن يبحر إلى اليمن والهند ولكنه لم يجد في ثغر جدة مركبًا أو رفيقًا إلى الجنوب فرجع إلى مصر. وسافر منها إلى الشام على طريق بلبيس. ووصل إلى اللاذقية. وركب منها البحر إلى العلايا في الساحل الجنوبي لآسيا الصغرى، وكانت حينئذ مشتى الروم السلاجقة.
وطاف الرحالة في كثير من بلاد الأناضول، فوصف أحوالها السياسية قبل أن تصبح دولة واحدة على يد العثمانيين. كما تحدث عن آثارها وصناعاتها وعادات أهلها، ولا سيما نظام جماعات الإخوان أو الفتيان. وهي جماعات تضم الشبان العزباء أبناء الطائفة الواحدة أو القرية الواحدة، فيقدمون عليهم رئيسًا لهم ويتخذون مقرًّا لجمعيتهم ويتعاونون على البر وإكرام الضيف الغريب ويشتركون في الطعام وفي الغناء وفي الرقص وما إلى ذلك من اللهو البريء. ونظامهم يتصل بنظام فتوة الإسلام. وقد ذكر ابن بطوطة أن فتيان مدينة قونية «لهم في الفتوة سند يتصل إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام. ولباسها عندهم السراويل كما تلبس الصوفية الخرقة».
وأبحر الرحالة إلى شبه جزيرة القرم من ثغر صنوب شمالي آسيا الصغرى، ونزل بمرسى «الكرش». ثم انتقل إلى تغر كافا، وأكثر سكانه من أهل جنوة، جعلوه من أهم مراكز التجارة وأكبر أسواق الرقيق. ورحل عنها إلى مدينة القرم. وكانت تابعة للسلطان محمد أوزبك، خان المغول المعروفين بالقبيلة الذهبية. وغادر القرم إلى أزاق وأشار إلى كثرة الخيل بتلك البلاد وإلى أن ثمنها زهيد فينقل التجار ألوفًا منها الهند ويغنمون الأرباح الطائلة.
وانتقل إلى مدينة الماجر بالقوقاز حيث لقي يهوديًّا كلمه بالعربية وظهر أنه من الأندلس، وأنه قدر إلى القوقاز بطريق البر الأوروبي، وأن رحلته استغرقت حول أربعة أشهر، وعلم ابن بطوطة صحة ذلك من بعض التجار الآخرين ممن لهم المعرفة في هذا الشأن. وأعجب الرحالة بتعظيم النساء في تلك البلاد حتى قال: «وهن أعلى شأنًا من الرجال.» ووصف بعض مواكبهن ولاحظ أنهن لا يحتجبن «وربما كان مع المرأة منهن زوجها، فيظنه من يراه بعض خدمها».
وفاة ابن بطوطة
روى المؤرخون أن ابن بطوطة استقر عندما وصل إلى سن 50 عامًا، وتوقف عن السفر والترحال، وذلك بعد أنهى رحلته وتأليف كتابه المشهور، ويُقال بأنه شغل منصب قاضٍ بعدها في البلدة، وتوفي إما في عام 1368 ميلاديًا أو 1369 ميلاديًا في مسقط رأسه بلاد المغرب.