تشكيل وتصويرفن و ثقافة

معرض طلبة “أرض الأحلام” والتربية على الفن

أعادني معرض طلبة فلسطين الموهوبين/ات الى أيام السبعينيات، حين بدأ تعرضنا للفنون: الدراما واللوحات والقصص والحكايات الشعبية، أي الى ما كان متوفرا في فضائنا كأطفال وكبار.

ندخل قاعات مركز بلدنا الثقافي، فترة عشرات اللوحات الجميلة، لكننا ونحن نقترب منها، نتفاجأ بأننا نعرف تلك اللوحات، والتي هي جزء من تكويننا الثقافي؛ إننا في عالم الفنان الكبير نبيل عناني. لم يكن صعبا اكتشاف أسلوب هذا المعرض، الذي قام على إدخال طلبة فلسطين إلى فضاء الفن التشكيلي الفلسطيني، ثم تشجيعهم على مشاهدة اللوحات والقراءة عنها، بنية اختيار لوحة أو عدة لوحات منها لرسمها من جديد.

 لقد رأت قيّمة المعرض الفنانة التشكيلية رانية العامودي أن التأسيس الفني منظومة متكاملة العناصر، من خلال تعليم أساسيات الفن، من ألوان وخطوط، بمراعاة المرحلة العمرية، دون السطو على طريقة رسم الأطفال في المراحل المبكرة. وهي في هذا السياق تتحدث من واقعه حياتها كطفلة موهوبة، وكيف رأت تعليم الفنون ومدى أثره وجدواه.

كذلك، فإنها برفق تدفع الطلبة الى الاهتمام والاطلاع، وجدية تعلم المهارات، والتفاعل مع الفنانين والفنانات القريبين منهم، عبر استضافتهم. إن تعامل الطلبة مع الفنانين يختصر الكثير عليهم. وعلى ذلك، وكما شاهدنا في معرض وزارة التربية والتعليم، فقد كانت البداية متسقة مع تعليم الفنون والأدب، حيث يبدأ الأطفال عادة برسم ما هو موجود بالفضاء، إضافة إلى محاكاة الرسومات واللوحات التي يحبونها.

تلك هي نظرية المحاكاة في مراحل التأسيس، بحيث يبدأ الطفل بتقليد ما هو كائن، ومن ضمن ذلك لوحات يحبها؛ حيث إن تعلم الرسم يشبه تعلم اللغة، لكن ذلك وفقا للعامودي لا يجب أن يستمر، بل سيجد الفتى نفيه والفتاة نفسها من الموهوبين/ات، خصوصا بعد التخرج من المدرسة، يتجهون إلى التعبير عن أصواتهم الخاصة، وهذا أصلا هو هدف تعليم الفنون.

لقد أفرد أرسطو فصلا هاما عن نظرية المحاكاة ومستوياتها، ولعل الفنانة العامودي أيضا قد اطلعت على ذلك، لكن دوما هناك مجال لزيادة الاطلاع، لتعميق التربية على الفنون.

تعليم الفنون يختلف عن تعليم مباحث أخرى، لأنه غير نمطي، لذلك فإن هناك ضرورة لتأهيل معلمي الفنون، خاصة في أمرين: التعامل مع خيال الطفل، وتعليم مهارات الرسم والتلوين، فاختيار الألوان الباردة والحارة يمنح الأعمال الفنية المزيد من الجدية، بل ويساهم في تمكين الطلبة في قراءة اللوحات في المعارض، وهذا يقودنا الى مسألة مهمة، تقع داخل منظومة البناء الفني، ألا وهي بناء جمهور جديد؛ فالطلبة المشاركون/ات جميعا سيصبحون مواطنين قريبا، وبالتالي سيستمر عندهم الاهتمام الفني، بحيث نضمن زياراتهم للمعارض الفنية.

 اختار طلبة المدارس عدة لوحات من أعمال الفنان الفلسطيني المعروف نبيل عناني، وقاموا بإعادة رسمها من جديد، بمستوى فني جميل، وقد كانت فرصة لتأمل تجارب المحاكاة للوحة نفسها، من حيث مستويات اللون وطرق المحاكاة، كذلك تم منح الطلبة فرصة عمل جداريات يشترك فيها عدد من الطلاب والطالبات، وعند تأمل 4 لوحات كبيرة منها، وجدنا كيف تصرفوا في بناء العناصر داخل اللوحة، حيث تم تضمين أحداث وطنية وعناصر من البيئة، داخل اللوحات، مما ميّز طلبة عن آخرين، وفي الوقت نفسه ظهر ما هو متشابه في التركيز على النزعة الوطنية المناهضة للاحتلال.

محاكاة الفنان نبيل عناني هذا العام جاء بعد محاكاة لوحات الفنان الكبير سليمان منصور العام السابق، حيث أصبح هناك تراكم للتجربة، لذلك فإن الاستمرارية في هكذا نشاط إبداعي، سيؤسس لنشر الفن التشكيلي والتوعية عليه، بما يخدم الهدف الجمالي والوطني معا.

والمهم هنا في الفن والأدب هو توطين المكان الفلسطيني بما يحمل من واقع وطموح وجمال، فانتباه الطفل لمكانه ورسمه، والتعبير عنه يمنح الخصوصية والمحلية المميزة لفلسطين، فالفن والأدب هنا يمنحان الطلبة التفاعل مع المكان؛ فقد كانت قراءاتنا ومشاهدتنا للوحات الفنية فرصة لرؤية فلسطين، وهكذا فقد تأثرت جدا في طفولتي حين قرأت لعدد من الكتاب كذلك حينما شاهدنا بوسترات للوحات فنية كانت بمثابة مقاومة فنية للاحتلال.

واحتوى المعرض على زاوية خاصة قام فيها الطلبة برسم قصص من ابداعات طلبة آخرين من خلال ورشة تمت بإشراف الكاتب زياد خداش، وقد تم نشر القصص والرسومات في كتاب تشجيعا لهم. ولاحظنا على اللوحات وجود الانفعالات في الوجوه، كذلك الحركة الواضحة.

أما الزاوية الثالثة فتمثلت بالسيارة العجيبة حيث رسم الاطفال من الأول حتى الرابع السيارة التي يختارونها وإلى أي مكان يحبون الذهاب إليه، فظهرت جزء من اللوحات تتضمن طيران السيارات إلى مدينة القدس بسبب الحواجز. كما لمحنا الأطفال من ذوي الحاجات الخاصة يعبرون عن حبهم لقوس قزح.

ولعل اختيار عنوان “أرض الأحلام” للمعرض الفني يتعلق بأحلام الأطفال الفلسطينيين. لقد أبدع الأطفال برسم السيارة بطرق مختلفة، فهي طير ذاهب الى القدس، وهي سمكة تغوص في البحر، وهي تصعد الى جبال الألب، وتذهب الى البحر.

وهذه اللوحات مجتمعة دلالة صادقة وجميلة على أحلام طلبة فلسطين في حب الحياة والوطن وقوس قزح والعلم والحرية.

لي وللقراء تذكر الطفولة، فما زلت أذكر ذلك السحر الذي استمر حتى الآن وغدا، لكل ما تعرضنا له من فنون، وما زلت حتى هذه اللحظة أتذكر ما رسمه طلبة مدرسة بيت دقو الابتدائية قبل حرب عام 1967، وأوائل السبعينيات، حيث رسموا مشاهد من القرية، كذلك مشهد المدرسة وكروم العنب حولها. فكم من مواهب مرت هنا ولم تجد من يرعاها فضمرت في الأدب والفن والتمثيل.

تشكل النشاطات الطلابية مجالا لاكتشاف المواهب ورعايتها، ومن ثم إعدادها للالتحاق بكليات الفنون الجميلة، لذلك فكما قلنا، إن التربية على الفنون منظومة متكاملة. بقي أن نشير إلى أن المعرض سمح للطلبة بالاحتفاظ بأعمالهم التي تم تأطيرها بشكل جميل، كذلك منحهم فرصة بيع تلك اللوحات، ما يؤسس ويشجع الأهالي والأطفال للنظر الى الفنون من أجل التعاطي الجاد معها.

لوحات أطفال فلسطين تتقدم اليوم لتصوير حياتهم وأحلامهم، فمن خلال الحلم والألوان ينتصر طفل فلسطيني جميل على سلاح الاحتلال الذي له طريق واحد: الانتهاء.

وأخيرا فإنني أجد أن هناك ضرورة لعقد ورشة فنية تتناول هذه التجربة التي امتدت لعامين متتاليين، باتجاه تطويرها في الأعوام القادمة، بالتعاون البناء والإبداعي بين التربويين والفنانين.

نحن بحاجة لدراسة معنى المحاكاة التي لن يتيسر لنا عنا في هذه العجالة الحديث عنها، لكن لعل الأكثر معرفة واختصاصا يدلون بآرائهم.

كنا أطفالا ذات يوم نلهو ونلعب ونرسم ونكتب، وها هي الأجيال تستمر، فلعل يكون كل ذلك أكثر إبداعا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88