إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

التوازن سر جودة الحياة

مروة الأماسي

إنّ المتأمل في أحوالنا اليوم، في القرن الواحد والعشرين الميلادي، وما وصلت إليه التكنولوجيا الحديثة، والنهضة الحالية، من تطور مُذهل على كافة الأصعدة والمستويات، والمرافق والآفاق، يجد بأن تلك الحالة الاستثنائية ذات الإيقاع السريع من خلق الحلول والبدائل، والتي فاقت كل التوقعات، وحققت ما لم يكن في حسبان من فات وسبقنا في هذه الحياة خلال القرون الماضية، هي سلاح ذو حدين، وعملة ذات وجهين. فكما ساهمت في تسهيل شؤوننا، وإعمار أوطاننا، وحلّ مشاكلنا، وتخفيف الضغوط عن أجسادنا، وأسهمت بشكل حاسم في إطالة أعمارنا، ورسم صورة مشرقة لمستقبل أبنائنا وأحفادنا، إلّا أنّ لها بطبيعة الحال جانبًا آخر يستنزف طاقاتنا، ويُضعف همتنا، ويجذبنا إلى هُوَّةٍ عميقة أو قاع مُظلم، ويفصلنا عن بعض المشاعر والعادات اللازمة لصحتنا النفسية والجسدية، وسلامتنا الذهنية، وهدوئنا الداخلي الروحي؛ إذا ما أساء الكثير منّا استخدامها.

فهل من الممكن تحقيق التوازن المطلوب لاتّقاء أضرارها؟ وهل من سبيل إلى تغيير بعض الأفكار المرتبطة ببعض التقنيات الصناعية، وإضفاء طابع إنساني عليها يحفظ الجوهر ويسمو بالبشر؟

وهل سيجد الإنسان يومًا نفسه مُضطرًّا على سبيل المثال للخضوع التام للآلات التي تُجسّد الذكاء الاصطناعي، والذي سيصبح يومًا ما المُتسيد والمُسيطر على كافة جوانب الحياة؟

لست ممّن يُقدسون المُنتج الأسرع أو الأكثر تعقيدًا، ولا أفهم لِمَ يجب علينا أن نقتني سيّارة تسير بسرعة تفوق المسموح به في شوارع البلاد التي نسكنها ونحن لن نشارك بها في مضمار سباق، أو أن نتنافس في اقتناء هاتف خلوي يمتلك العشرات من المزايا، والتي يتم تجديدها وتطويرها سنويًا ونحن في حقيقة الأمر لا نستخدم منها سوى ما ألفناه ويلزمنا، ولم أتمكن يومًا من استيعاب شرائنا لمواد غذائية كُتب عليها قائمة طويلة من العناصر الكيميائية التي لا نعلم كنهها وكينونتها، ولكنّنا نستهلكها، ونزين بها موائدنا ونحن مستمتعون بنكهاتها، وسرعة الوصول لها، وسهولة تحضيرها، وبخس أثمانها!، يبدو والله أعلم بأنّ الدافع وراء ذلك هو الاعتياد والانقياد. الاعتياد على العيش بإيقاع تلقائي معين يشبه عمل الآلات اللي باتت جزءًا لا يتجزأ من جودة حياتنا، والانقياد لفكرة السرعة والسهولة، فكل ما يقلل الوقت والجهد يستحق الشراء والاعتماد عليه.

لا بد أن يكون التوازن والاعتدال هو الحل الأنسب والأمثل، فلا اعتماد كامل، ولا تجنُّب أو تجاهل، ولن نرجع بالطبع إلى عقود مضت ونهدم كلّ ما كان، ولن نُدير ظهورنا عن كل ما استجد ونفع.

وهذا يقودني للحديث عن مصطلح “جودة الحياة”، والذي وضعت لها «منظمة الصحة العالمية» تعريفًا بأنها: «إدراك وتصور الأفراد لوضعهم ومواقعهم في الحياة في سياق نظم الثقافة والقيم التي يعيشون فيها، وعلاقة ذلك بأهدافهم وتوقعاتهم ومعاييرهم واعتباراتهم، وهو مفهوم واسع النطاق يتأثر بالصحة الجسدية للشخص وحالته النفسية ومعتقداته الشخصية وعلاقاته الاجتماعية، وعلاقة ذلك بالسمات البارزة لبيئته».

وقد ذُكر في مقال نُشر في جريدة الوطن في عددها الصادر عام ٢٠١٩م: (لم تعد جودة الحياة مطلبًا فرديًّا فحسب، بل أصبحت مطلبًا رسميًّا؛ تسعى الدول والمجتمعات إلى تحقيقه من خلال برامج مؤسساتية هدفها تحقيق السعادة، وأصبحت الدول تُقاس في تطورها وازدهارها وتنميتها المُستدامة، من خلال تحقيق السعادة وجودة الحياة، فهذه رؤية هذا البلد العظيم «2030» والتي تضمنت برنامجًا لجودة الحياة يُنص على تحسين نمط حياة الفرد والأسرة وبناء مُجتمع ينعم أفراده بأسلوب حياة متوازن).

ولقد تطرق كاتب مقال آخر في جريدة الشرق الأوسط الصادرة عام ٢٠١٢م لمقومات جودة الحياة بقوله: (لقد أصبح من الضروري أن نعلم أبناءنا وأفراد المجتمع عمومًا مفاهيم ومفاتيح جودة الحياة، وأنها ليست في تحقيق الثروة والوضع الوظيفي، بل أيضا في كيفية تحقيق جودة الحياة في مختلف صورها وأشكالها ومجالاتها، من خلال الاهتمام بتحقيق التوازن بين الجوانب الجسمية والعقلية والاجتماعية والعلمية والروحية والترويحية وغيرها، والعمل على تنمية قدرات ومهارات ومفاتيح النجاح في الحياة والتغلب على مشكلاتها وشدائدها، وغرس الأفكار والمشاعر الإيجابية، حتى يستطيع الفرد أن يفيد نفسه ومجتمعه، فيشعر بأهميته وقيمته ونجاحه في الحياة والمجتمع).

 ويغلب إلى ظنّي بأن التكنولوجيا اليوم باتت كشبكة من الأوردة والشرايين التي تتداخل وتتغلغل في كل جانب من جوانب حياتنا، وتضخ فيه الدماء التي تتغذى عليها أرواحنا وأجسادنا وعقولنا، فتساهم بشكل مباشر وغير مباشر في رفع أو خفض جودة الحياة.

وأختم بقول الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم: (لا ضرر ولا ضرار) رواه ابن ماجة. ولنتخيل معًا العيش في عالم يؤمن كل من فيه إيمانًا كاملًا بهذه القاعدة، ولا يسعى لابتكار أي تقنية من شأنها إلحاق الضرر بالبشر أيًّا كان نوعه. ربما لانتفت كل المخاوف من التبعات، والقلق المستمر المصاحب لتدشينها، والخوف من فقد السيطرة عليها، وتحولها لمعول هدم وتخريب.

 إنّ تحقق التوازن في الاستهلاك والاستخدام، وتبني الشفافية عند الإنتاج، ووضوح القوانين والأنظمة عند الابتكار والابداع ليمهد الطريق لمستقبل مضيء، ويبشر بواقع مشرق على كافة الأصعدة بإذن الله تعالى.

بقلم/ مروة الأماسي

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88