إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

أفريقيا السوداء: قلب الظلام (الإله الإنسان)‏

علي عويض الأزوري

هذه الخربشة ليست للحديث عن السياسة ولا الاقتصاد، ولا عما يحدث في أفريقيا السوداء من خروج المارد الأسود من القمقم، بقدر ما هي قراءة تاريخية للنفوذ الأوروبي في القارة السوداء.

كنت كتبت دراسة من 20 صفحة قبل ربع قرن من الزمن تعتمد على تحليل لرواية جوزف كونراد (Heart of Darkness) قلب الظلام، وطُـلبت مني حينها من إحدى الصحف المحلية للنشر، ولكن لم تُنشر؛ وأعرف الأسباب. كانت الدراسة بعنوان الإنسان الإله، وقد أضعتُ تلك الدراسة مثل كثير من كتاباتي لإهمالي وذلك ما يميزني عن غيري.

بدأ الاستعمار الأوروبي للقارة السوداء -في القرن السادس عشر ميلادي- من الإسبان والبرتغاليين، وتبعهم بعد ذلك الهولنديون والفرنسيون والإنجليز.

ذهب كونراد بنفسه الى الكونغو ورأى تجارة الرقيق والعاج، وكيف أن المستعمرين يستغلون السكان الأصليين بدلا من أن يقوموا بتعليمهم وتنويرهم، وانتشالهم من غيابات الظلام والجهل والفقر.

إن الشخصية الرئيسية في قلب الظلام (كيرتز) يمثل الرجل الأبيض في مختلف الأزمنة، فلا يهم من أي دولة أتى؛ فالمحتوى واحد.

كان الأوروبيون ينظرون إلى أفريقيا السوداء على أنها بربرية وحشية غير متحضرة وبدائية، ويخيم عليها الجهل، وكان التبرير لاستعمارهم هو: تنوير السكان الأصليين (الأفريقيين السود)، وانتشالهم من غيابات جب الظلام إلى النور. وكان الأوروبيون ينظرون إلى السود على أنهم ليسوا بشرًا مثلهم؛ ومن هنا نشأت فكرة أو أيديولوجية الفوقية والدونية (Superiority vs Inferiority)، مع تكريس معظم الاهتمام لشرح أصل ومعنى السواد لدى الأفارقة.

أثـّرت الارتباطات السلبية المستمرة مع الأسود والظلام على الفلاسفة (ديفيد هيوم، وإيمانويل)، وكانت لاعتبار الأفارقة أقل من إنسان كامل ويفتقرون إلى القوة الشخصية. قدمت وجهات نظر هيوم وكانت حول لون البشرة، وسلامة الأجناس المنفصلة، والمكانة المتدنية للأفارقة الدعم للدوائر السياسية والاقتصادية والدينية المتنوعة في أوروبا والأمريكيتين المهتمة بالحفاظ على تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي ودعم العبودية.

ظلت التركيبات العقلية والقوالب النمطية للأعراق القائمة على اللون أقوى في بعض الأماكن من غيرها.

إن مفهوم التسلسل الهرمي القائم على اللون للأشخاص الذين تم ترتيبهم من الأشخاص ذوي الألوان الفاتحة المتفوقة إلى الأشخاص ذوي الألوان الداكنة الأدنى، قد تم تعزيزه في أواخر القرن السابع عشر وتم تعزيزه بواسطة قوى متنوعة منذ ذلك الحين. تتجلى هذه الأفكار في صورة عنصرية وتلونية وفي تطور التحيز الضمني.

وكما قال باستيد في عبارة لا تُنسى، “إن الألوان ليست مهمة في حد ذاتها…، ولكنها مهمة كحاملة لرسالة” (باستيد، 1968، ص 34)

تم إنشاء أول هذه التصنيفات بواسطة كارل لينيوس (1707-1778) ونشرت في الطبعة الأولى من Systema Naturae في عام 1735 (لينيوس،  17 ). في هذا العمل، صنف لينيوس الناس إلى أربع مجموعات، الإنسان الأوروبي المبيّض، والإنسان الأمريكي روبيسينس، والإنسان الآسيوي، والإنسان الأفريقي النيجر.

في أواخر العصور الوسطى، استحضر السواد صورة للشر أو شيء معيب بطبيعته أو غير مرغوب فيه أو غامض، ويتناقض مع البياض أو الخفة، الذي كان مرتبطًا بالخير والرغبة والصدق (Cole, 1972; Eze, 1995;  Jablonski ,  2012b ). أثارت البشرة الداكنة بشكل انعكاسي الشك وعدم الثقة والارتباطات التحقيرية للسلوكيات السلبية بما في ذلك أكل لحوم البشر والشيطانية والارتباطات المباشرة بالدونية (كول،  197 ؛ إيزي،  1995 ؛ جابلونسكي،  2012 ب) *

وأظن أن الأفريقيين (السود) كان لديهم استعداد داخلي/ نفسي لتقبل اللون الأبيض متفوقًا على اللون الأسود.

كان كيرتز Kurtz وكيل الشركة صاحب الشخصية الكاريزمية القوية، والذي أصبح شخصية محترمة بين السكان الأصليين. كانوا ينظرون له على أنه كائن إلهي يمكنه ممارسة نفوذ وسلطة هائلين على الأرض وشعبها. من خلال تقديم كيرتز كرجل إله، كان شخصية قوية وغامضة يمكنه فعل أشياء عظيمة، سواء الخير أو الشر. اعتقد السكان الأصليون أنه يمكن أن يمنحهم خدمات أو يعاقبهم كما يراه مناسبا

كان كيرتز شخصية جذابة، ذكيًّا وفصيحًا ولديه قدرة طبيعية على جذب الانتباه. كان لديه أيضا حضور مادي قوي، وجده السكان الأصليون مثيرًا للإعجاب. وبمساعدة تقنيته المتفوقة، حـوّل كيرتز نفسه إلى نصف إله كاريزمي لجميع القبائل المحيطة بمحطته وجمع كميات هائلة من العاج بهذه الطريقة. أحضر أسلحة (يمكن أن تنتج الرعد والبرق)، فالسكان الأصليون لم يروا بنادق ومدافع من قبل لأن أدوات الحروب عندهم كانت الرماح والسهام، وعندما كانوا يسمعون صوت دوي الانفجارات التي تشبه صوت الرعد، والضوء الناتج عن إطلاق البنادق والمدافع يشبه البرق انبهروا بها، وقدموا “طقوسًا لا توصف” وتضحيات لكيرتز وعبدوه.

أصبح إلهًا للسكان الأصليين باستخدام تقنيته المتفوقة وجاذبيته، الأمر الذي أدهش وأرعب السكان الأصليين. كما استغل دينهم المحلي وأقام طقوسًا وتبجيلًا جعله يبدو ككائن إلهي. وكان كيرتز على استعداد لاستخدام العنف؛ لم يتردد في قتل أو تعذيب أولئك الذين عارضوه؛ هذا جعل السكان الأصليين يخشونه ويحترمونه؛ أمرهم باحترامه وطاعته، وجمع كميات كبيرة من العاج منهم. كان مؤثرًا لدرجة أن السكان الأصليين دافعوا عنه من أي تهديدات، مثل وكلاء الشركة، لأن وضع كيرتز (الإلهي) أيضًا كان مصدر حسد وخوف لمنافسيه الأوروبيين.

إحدى الطرق التي استغل بها كيرتز السكان الأصليين تمثلت في إعطائهم حبات رخيصة من الخـرَز (ما يشبه السبحة) لا قيمة لها وأخذ منهم العاج والالماس الثمين. كما فرض إرادته وسلطانه عليهم، وجعلهم يعبدونه كإله، لم يهتم برفاهيتهم أو ثقافتهم، ولكن كان يشبع جشعه بقوته، كان رمزًا لشر وفساد الإمبريالية.

يكشف كونراد نفاق وفساد المؤسسة الاستعمارية التي تدعي أنها تجلب الحضارة والتنوير إلى القارة “المظلمة”، ولكنها في الواقع تستغل وتضطهد سكانها.

تكشف مكانة كيرتز الإلهية أيضًا عن جنونه وانحلاله غير الأخلاقي، حيث ينفصل عن الواقع ويفقد إحساسه بالإنسانية. إنه في النهاية شخصية مأساوية تستسلم للظلام داخل نفسه ومحيطه. ويمكن النظر إلى فكرة العراب في قلب الظلام على أنها انعكاس لتناقض كونراد تجاه الإمبريالية وآثارها على كل من المستعمرين والمستبعدين.

العلاقة التجارية بين كيرتز والسكان الأصليين هي صورة مصغرة للعلاقة الاستعمارية بين أوروبا وأفريقيا. جاء الأوروبيون إلى أفريقيا بوعد لجلب الحضارة والتقدم، لكنهم استغلوا الأفريقيين السود في النهاية لمصلحتهم الخاصة. إن تقديم الخرز مقابل العاج والألماس هي تذكير بالجانب المظلم من الاستعمار والضرر الدائم الذي ألحقه بأفريقيا.

ذلك هو الرجل الأبيض في أفريقيا السوداء/ المظلمة وطريقة تعامله ومعاملته مع الرجل الأسود صاحب الأرض والثروات الطبيعية الهائلة، الذي سلم روحه قبل نفسه وجسده للرجل الأبيض لأنه رأى أنه يمتلك قوى خارقة تشبه تلك القوى الإلهية. وحرص الرجل الأبيض على بقاء الرجل الأسود في ظلام إلا في حدود ضيقة لمن كانوا أوفر حظًّا وحصلوا على تعليم جيد في الدول الأوروبية، لكنهم لم يستطيعوا تغيير الجوهر، فالرجل الأبيض شـكّل وقولب ذهنية الرجل الأسود على التبعية وعلى تقبل مفهوم السادة والعبيد Masters and Slaves ولكن في صورة ولباس أو قناع جديد.

ولأن يحاول الآن الرجل الأسود الخروج عن الطاعة ونبذ العبودية المقنعة، وطرد (المستعمر) الأبيض فإنه لا إراديا يسلم نفسه لقوى أخرى (الصين وروسيا) واللتان تُظهران جانبًا ناعمًا، وتلبسان قناعًا تعلوه ابتسامة، والهدف إحداث تغييرات جيوسياسية في مواجهة أوروبا والولايات المتحدة، لكن يبقى الهدف الأغلى والأسمى: ثروات أفريقيا الطبيعية الخيالية التي لا تقارن.

يقول القس ديزموند توتو: عندما جاء المبشرون إلى أفريقيا كان معهم الكتاب المقدس وكان لدينا الأرض، قالوا: دعونا نصلي، أغمضنا أعيننا، وعندما فتحناها كان لدينا الكتاب المقدس وكان لديهم الأرض.

والأن جاء التنين الصيني والدب الروسي، فماذا سيقول القس توتو!

بقلم/ علي عويض الأزوري

…………………………………………………………………………………………………

*لون البشرة والعرق نينا جي جابلونسكي ، تم النشر على الإنترنت في 29 ديسمبر 2020.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى