تشكيل وتصويرفن و ثقافة

غسان جعفر ورؤيته العامة في الانتقال بين المدارس الفنية

في لوحاته كما في أعماله النحتية، يمتلك الفنان غسان جعفر قوة تأثير خاصة في السياق والموضوع الذي يمضي فيه، قوة جعلته ينتقل بين المدارس الفنية بسلاسة ليعرض رؤيته الفنية الخاصة التي يستمد جمالياتها من مدينة السلمية في سوريا.

يكفي أن يكون من مدينة السلمية التابعة إداريا لمدينة حماة حتى تتأهب وأنت بكامل عتادك، فتندفع بقوة لتكون النتائج مثمرة، وستحرص على بذل جهدك على نحو أكثر، وتبحث عن تفاصيل الإطارات الكبرى على نحو أدق وأعمق، فهناك ضرورات بحثية تلاحقك وتفرض عليك. فمدينة السلمية فيها ما يتوافق ويتقاطع مع مساراتك التي تذهب فيها، ووسائطك التي تزعم أنها التي ستعطيك النتائج المرجوة.

هذه المدينة فيها من التحريض ما يذهب بك إلى صور الصمت ومفردات لحظاتها المشعة والبهية والنضرة والتي تبين لك الرنين من غيره ويحيلك بيسر وسهولة إلى مشاهد تتحرك فيها الشخوص المتخيلة ذاتها في الفضاء المتخيل ذاته وتتماثل الخيالات معا ليكتمل المشهد المصور المتحرك أمامك بزمن غير معلوم وبلغة جديدة تتكئ لا على السرد وحده، بل على تلك الصور الجديدة المتبرجة التي تأخذ من هذا وذاك لتصنع خطاباً سردياً جديداً تنداح منه ومعه باقة أسئلة تساعدك على دفع قراءتك في اتجاهات أنت تبحث عنها، بجوهر فعل فيه تتوفر الفروض والمعطيات والإحداثيات بدقة حكاياها التي تلقي الضوء بكل تركيز على جوانب أساسية منها.

نعم يكفي أن يكون الفنان التشكيلي غسان جعفر من السلمية حتى تعرف أن رؤية واحدة لا تكفي لتبدأ المؤثرات ذات الطاقة التشكيلية في بناء السرد الجمالي بمنظوماته القيمية المتأصلة بكشف حكاياتها المشبعة بالحب والعاطفة. فمدينة السلمية تذكرني دائما بعامودا المدينة التي أبصرت الضوء فيها، حيث التربة خصبة جدا وفي كل الفصول، تربة صالحة للشعر والفكر والأدب والرسم والموسيقى، صالحة لإنجاب كل ما يبني الإنسان.

سقت كل ذلك وأنا أقف بين أعمال جعفر، ابن مدينة السلمية، حيث ولد فيها عام 1955، درس في دمشق، في كلية الفنون الجميلة تخرج منها عام 1978 قسم الحفر، وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين ومدرس مادة التربية الفنية بمدينة السلمية. أعماله تذهب بك في أكثر من اتجاه، وإذا قاربتها أكثر ستلاحظ تلك الخصوصية التي تحملها والتي تجدد الفضاءات حيوية ودفئا، تجددها بالأسئلة التي تحي الحوار الذي لا فكاك منه في الانشطار كحالة إبداعية أخرى تتعاظم مع كل تداخل جديد بين موجاتها البصرية التي تتحرك وفق سرود جديدة غنية وموحية وداعية للشراكة.

بين تلك التفاصيل التي تحال بكل سرودها البصرية إلى فضاءات يعاد ترتيبها وتنظر إليها كتفكيك مواقيت ملخصاتها وبالتالي كمقدمة تستمد مشروعيتها من ذلك التفكيك ومن ذلك الترتيب، وكي لا نذهب في الحكاية ذهابا اعتباطيا، وكي تبقى جوهرها وإطارها العام حاضرا ومسموعا، لا بد أن نشير إلى أن فعلها الإبداعي واحد لا يمكن تقسيمه وإلا سيكون الإجهاض حاضرا بكل تواصله.

من سمات الفعل الإبداعي لدى غسان جعفر التقاطع أولا ثم التلاقي وهذا قبول لرسم الحدود ثم كسره لاحقا بين الإطار والجوهر. هنا يفرض علينا كمتلقين أن نعيد قراءتها بلغة جديدة تختلف عن الأولى، ومهما تكن هذه القراءة مقاربات للرغبة وما يساورها في معرفة ما يدعم اللون إن كان تفكيريا أو تقنيا، وما يستوجب عليهما أمانة نسبية أو شكلية هي في الغالب الأعم إحصائيات زمنية تسجل ارتفاعا بالغا وسريعا في تلقي إشارات بصرية تختلف حكما من متلق إلى آخر، إشارات من نمط التلقي الخاص على الأقل من جهة الأفق المفتوح لها وللتصورات والافتراضات التي ستلد لدى المتلقي، وقد تكون هذه الصيغة هي الأكثر أمانة والأكثر فاعلية من وجهة النظر الشكلية على الأقل.

إضافة إلى ما قلناه هناك دلالات أخرى مرتبطة بالخطوط وما تمثله، فرغم انتقالاته الكثيرة بين الأساليب الفنية المختلفة، إلا أن خطوطه مليئة بالارتفاعات والانخفاضات، بالمتاهات والتداخلات والأمر هنا مرتبط بالحركة وهي التي تكسب خطوطه أهميتها الخاصة من خلال أشكاله الخاصة التي تساهم في تشكلها واحتوائها.

غسان جعفر يتحرك على نحو واع حينا وحينا على نحو حدسي، وهذا ما يدفعه إلى القيام بوضع الخطوط في علاقات بعضها ببعض، تلك العلاقات التي تساهم في تشكيل إيقاعات موحدة باطنا، مختلفة ظاهرا، توحي بأحاسيس من الفرح أو الحزن، وهذه أولى ارتباطاته بالحالة المرتبطة برؤيته العامة على نحو ما، فالحيز والمكان الذي يتشكل في ضوء ذلك سيشغل سطوحه المتباينة إلى حد ما، وبشكل خاص ما قد يحضر من خلالها الأشياء المختلفة المبنية أصلا على أفكار مختلفة.

وفقا لهذه القدرة المهمة في إمكانياته تصبح دواخل الفنان طفلا حساسا جدا في إدراكه الجمالي وعلى نحو خاص حساسيته لخطوطه وألوانه، بأحجامها واتجاهاتها. هذا يشير إلى قدرة ذلك الطفل على التعرف على الأشكال إن كانت في فئة أشخاص وحيوانات وما شابه ذلك، أو ما تبدو في عملياته كما لو أنها مشروعه المنهمك فيه من تفصيلات ونغمات وألوان وتصورات تحقق الارتقاء الجمالي على نحو متتابع وغزير في نطاق مشروعه الذي يشتغل عليه.

هذا التكريس لاستكشاف العالم البصري هو الذي ستترتب عليه ذاكرة ستثار من قبل جعفر على نحو أكثر كي تسرد تفاصيله الحسية والإدراكية الخاصة به على أساس من التقارب بين الوحدات المعرفية الخاصة به، وهذا ما يمكن أن يحدث أشياء غير مماثلة وكأننا نسمع مقطوعة موسيقية هي توليفة لمقطوعات موسيقية كثيرة.

غسان جعفر كما هو ملون يطمح إلى رفع غزارة منابع خياله. هو نحات يبدأ في وضع وجهات النظر الأخرى في اعتباره، ويجمع خبراته فيها في مقابل العلاقات التي يطمح نحوها إبداعيا، علاقات غير محدودة بل واسعة المدى. فهو يربط تلك العلاقات بالموضوعات التي قد تكون ذات مسافة قريبة أو بعيدة تبعا لمنزلتها وما يترتب عليها شعور المتلقي من نفور أو قبول، وتبعا للطريقة التي يستجيب من خلالها لعملية الخلق، أي خلق الأعمال الفنية وما يواجهه من تحديات ذاتية. هنا يتطلب مهارات خاصة من الفنان، يبدأ في رؤية احتمالات وإمكانات جديدة في العمل الفني ذاته مع تزايد اهتماماته بأبعاد أخرى له، نعم هو نحات أيضا ومن منحوتاته “الأمومة”، “انفجار نووي”، “الإنسان جلاد أخيه”، “السمكة والصياد”، “هجرة وطن”، التي نجد فيها من الخصائص والتنويعات فرصا للفنان لإثراء بناء سردياته.

وبغض النظر عن موضوعاته التي تتطلب الكثير من الشرح والتفاصيل، فهو يمتلك قوة تأثير خاصة في السياق الذي يمضي فيه، حيث يمكننا اعتبار أعماله النحتية علامات تأسيسية مهمة في مسيرة فن التوليف وخصائصه، عبر تمييزه لأكثر من شكل حيث التوازي والتناقض يتماشيان معا في مقارباته الإبداعية بوصفها قضية جمالية لها مواصفاتها وأبعادها ومصطلحاتها، وبناؤه هذا ذو جذور يندفع إلى الحدود المفرطة في بعض التجارب النحتية التي تصل إلى درجة تستحق الاحتفاء بها ومقاربتها قرائيا وملاحقة حكاياها المتخمة بتداخلاتها حتى تغدو مخزونا ممتلئا تؤكد قابليتها على النضوب، حتى تتاخم الولع وهي تحكي وتسرد حياة ذاتها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى