غازي انعيم فنان يحكي تفاصيل الحياة المنسية في فلسطين

يواجه الفنانون التشكيليون الفلسطينيون تحديات كبرى تجعل من أعمالهم تتجاوز الرؤى الذاتية والتهويم الفكري الفردي، وتحول العمل الفني إلى أداة جماعية تواجه واقعا مخصوصا هو واقع الاحتلال الذي يعيشه الفلسطيني، ولكل فنان من هؤلاء لغته الخاصة التي تحاول نشر السردية الفلسطينية، وللفنان غازي انعيم لغته بدوره، في ترسيخ عناصر الحياة الفلسطينية بكل تفاصيلها.
تشكلت تجربة التشكيلي غازي انعيم من محطات متوالية من المعاناة، فهو رمز الفلسطيني الذي أُخرج من أرضه عنوة ليتنقل بين مخيمات الشتات، حيث الواقع المؤلم بكل مستوياته.
حمل انعيم، المولود عام 1960، فلسطين في ذاكرته وعبر عن حضورها في الوجدان بريشته ليرسم لوحات منح البطولة فيها للقدس والشهداء والمرأة المقاومة والطبيعة الفلسطينية بمختلف مكوناتها.
الرموز الفنية
درس انعيم في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، وتتلمذ على أيدي فنانين كبار على غرار غسان سباعي ومصطفى فتحي وعلي سليم الخالد الذي ساعده على الاختصاص في مجال الغرافيك.
وأقام الفنان معرضه التشكيلي الأول عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، حيث عرض ملصقات سياسية تضامنية مع القضايا العربية وقضايا أميركا اللاتينية. وفي ذلك العام بدأ الكتابة في النقد الفني والعمل الصحفي في مجلات وصحف متنوعة، بالإضافة إلى عمله في التصميم الفني والإخراج الصحفي.
تميزت الأعمال الأولى لانعيم باحتوائها على ألوان الغواش والأحبار، مُوظفا الرموز ذات الدلالة على أسطح اللوحات، وفي عام 1990 انتخب رئيسا مساعدا للاتحاد العام للفنانين التشكيليين الفلسطينيين (فرع سوريا)، وتعامل مع عدد من التشكيليين الذين تركوا أثرهم على تجربته الفنية.
وبعد عودته إلى عمّان انشغل انعيم بتوظيف الموروث الشعبي بأساليب مختلفة في اللوحة التصويرية والغرافيكية، مستخدما في ذلك مفردات من الزخارف والحلي والأزياء والأدوات الشعبية التي وسمت لوحاته بالأصالة والارتباط الوثيق بالحياة الاجتماعية.
وتناولت لوحات الفنان الذي أقام خلال مسيرته العديد من المعارض التشكيلية، رسومات لبيوت القدس تُظهر الطرز المعمارية المميزة من الأقواس والقناطر والأسوار والأبواب والنوافذ التي حرص على أن تظل دوما مشرعة على الأمل.
كما يصور قبة الصخرة وكنيسة المهد ويجعلهما مركزا في العديد من أعماله التي يعبر من خلالها عن حلم العودة.
وفي أعماله عن القدس، يؤكد انعيم على قيمة المقاومة التي تُفشل جميع المحاولات لتهويد المدينة المقدسة وطمس معالمها ذات الصلة بالحضارة العربية الإسلامية، حيث تتجلى القدس أيقونة تشير إلى المحبة والسلام والصمود والنضال.
وتحتفي تجربة التشكيلي انعيم بـ”المنمنمات”، تلك التي تأتي وفق نظام متداخل ومتشابك يتكون من وحدات هندسية زخرفية بسيطة التكوين، وهي تشير إلى أبعاد روحانية إلى جانب التشكيلات المميزة التي تقدمها على سطح اللوحة.
ويتجلى أسلوب المنمنمات في تلك اللوحات التي تصور التراث الفلسطيني وبخاصة أثواب النساء المطرزة بأشكال مستوحاة من طبيعة المكان ومن تاريخه وربما من أساطيره أيضا، ويعزز جمالياتها ذلك التناسقُ اللوني والتجاور بين الألوان الباردة والحارة.
وفي آخر معارضه الذي اختار له عنوان “في انتظار فرس الغياب”، خاض انعيم تجربة التقنيات الرقمية التي أسهمت في إبراز العناصر الجمالية في اللوحة ضمن فضاءات لونية مغايرة للمألوف، مع التركيز على الرموز ومفردات التناسق بين الظل والضوء، وإن كانت هذه الألوان غير ملموسة بيد الفنان وإنما يتم اختيارها عبر البرامج التكنولوجية وما تقدمه من طيف لا متناه من الألوان وتدرجاتها.
الفن والتكنولوجيا
لا تقتصر تجربة الفنان على الرسم باستلهام معاناة وتأكيد الصمود في وجه الاحتلال، فقد قدم انعيم مجموعة من الكتب المختصة في النقد الفني ومنها “وجوه من التشكيل العربي”، و”مآذن الرحمن في مدار الزمان”، و”ثريات اللون.. سماء معتمة: دراسات في الفن التشكيلي العربي”، و”رفيق اللحام رائد التشكيل الأردني”، و”مهنا الدرة: موسيقار اللون والفرشاة”، وركز فيها على قراءة تجارب بارزة ورائدة في إطار حركة الفن التشكيلي الأردني بخاصة، والعربي والعالمي بعامة.
كما أنه خاض من خلال اعتماد التقنيات الرقمية تجربة جديدة على مستوى التقنية وعلى مستوى نوعية الوسائط التعبيرية، وما تمثله من قيم فنية وتعبيرية تجريدية وجمالية تتسم بجدة الطرح وحداثة التشكيل واللغة، وإن كانت لا تنفصل عن إبداعات الفنان السابقة في الرسم والتصوير والحفر والطباعة والملصق.
ويقول انعيم إن تجربته في الانفتاح على العالم الرقمي انطلقت أثناء جائحة كورونا، مضيفا أن “هذا الجنس الفني هو نوع من الدمج بين الفن والتكنولوجيا، يسمح باستخدام العديد من الطرق الجديدة لصالح اللوحة التي يعتمد تنفيذها على استخدام الفأرة في عملية الرسم والتلوين”.
هذه التقنية أسهمت في إظهار عناصر اللوحة في فضاءات لونية مغايرة للمألوف والسائد في خطوات البحث التشكيلي والتقني، وهي تعني كما يوضح انعيم “انتزاع المرء من نفسه إلى عالم جديد؛ عالم تصنعه أنت.. عالم الفن”.
واستند الفنان في أطروحته إلى فكرة استعادة ما غاب عنا وفقدناه؛ الأهل والمكان، والوطن، وأشياء عاشت في الذاكرة والوجدان، كالمفتاح والحصان. وهو يقدم وجع الغياب بألوان الفرح والبهجة، كأن استعادة ذلك هي في حقيقتها إحياء جديد له.
ومن المفردات التراثية التي يستعملها ويوظفها الفنان تميمة “الكف”، إلى جانب استعادة الملابس المطرزة بألوان وتشكيلات مفرحة والحيوانات والمنشآت.
ويقول انعيم “ركزت على الطبيعة وعلى المكان والحياة فيه، وهو غير معزول عن الحركة، وهذا هو محور شغفي الذي تأسست عليه الفكرة البصرية من حيث معناها المطلق، لاسيما أن المكان هو الذي شكل وعينا وأفراحنا وأحزاننا، وهو تراثنا وماضينا وحاضرنا”.