علي بك الكبير.. عجز العثمانيون عن هزيمته

منذ أن نجح السلطان سليم الأول في القضاء على دولة المماليك ودخول القاهرة في 1517م، صارت مصر ولاية عثمانية حيث تعاقب على حكمها منذ ذلك الحين حتى مجيء الحملة الفرنسية سنة 1798 عدد من الولاة الذين ترسلهم الدولة العثمانية لإدارة شؤون البلاد في مصر، واستمد هؤلاء هيبتهم من هيبة الدولة وقوتها، وأمسكوا بزمام الأمور في قوة وحزم وفقدت مصر قيمتها كدولة مستقلة ومحورية عدة قرون .
اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية
لكن في عام 1728 كان يوم ميلاد شخص كان له بصمة في تاريخ مصر حيث قاد أول محاولة استقلال عن الدولة العثمانية , إنه علي بك الكبير حيث ولد علي بك لأسرة مسيحية أرثوذكسية في منطقة (مينجريليا)غربي بلاد الكرج (جورجيا)، عام 1728 م، وكما كان منتشراً في حينه كان يتم اختطاف الفتية الصغار من أنحاء الدولة ويتم جلبهم لبيعهم في المدن كرقيق، وهذا ما حدث مع علي حينما خُطف وبيع في عام 1743م، حيث كان في الخامسة عشر من عُمره ، وذلك في القاهرة.
علي بك الكبير يصل لمنصب شيخ البلد
كان حب إبراهيم كخيا لعلي واضحًا للمماليك الآخرين، وهو الأمر الذي أثار غيرتهم وحين رفع إبراهيم رتبة علي إلى بك غضب أحد البكوات واسمه إبراهيم بك الشركسي كثيرًا وقتل إبراهيم كخيا، ولما كان علي بك كثير الإخلاص لإبراهيم كخيا فقد قرر الانتقام له، ولهذا مكث ثماني سنوات اشتغل في أثنائها بجمع القوة فابتاع عددًا كبيرًا من المماليك ووطد علاقته مع البكوات الآخرين واكتسب ثقتهم، ولكن خليل بك شيخ البلد تنبه إلى أفعاله ورأى أن يقضي عليه قبل أن يستفحل أمره فهجم عليه بقواته ولما لم يقو عليه علي بك فر إلى الصعيد وعاش في كنف دولة شيخ العرب همام، وهناك التقى بمجموعة من الساخطين على خليل بك فزود عدد أتباعه وعاد إلى القاهرة ليتمكن في نهاية الأمر من استلام مشيخة البلد في القاهرة عام1763 ويأمر فورًا بقتل إبراهيم الشركسي.
وبسبب هذا القرار وشى أعيان البكوات بعلي بك إلى الباب العالي مما اضطره إلى الفرار لبيت المقدس ثم إلى عكا فاليمن حتى عاد إلى القاهرة وتسلم زمام الأمور مرة أخرى، وعلى الفور بدأ علي بك بإصلاح البلاد وقرر أن يكثر من أتباعه المماليك فرقى منهم 18 إلى رتبة البكوية حتى يكونوا عونًا له في المستقبل، بعد ذلك طمحت نفسه إلى الاستقلال بمصر فانكب على حلمه وأعد العدة لتحقيقه؛ وقتذاك كان علي بك على دراية كبيرة بأن دولة شيخ العرب همام في الصعيد تهدد طموحه التوسعي، ولذلك قرر محاربتها حتى يستولي على جميع الأراضي المصرية.
علي بك الكبير وطموحاته التوسعية الكبرى
حينما علمت الأستانة بالخبر أرسل الباب العالي أمرًا إلى والي دمشق بمنع جنود عكا من مساعدة علي بك ولما حاول الوالي محاربة رجال عكا خرج إليه الظاهر بصحبة 6 آلاف جندي وأجبره على التقهقر، وكانت هذه هي آخر محاولات الباب العالي للتدخل إذ كانت الدولة منشغلة بحربها مع روسيا.
اغتنم علي بك فرصة انشغال الدولة العثمانية بحربها مع روسيا، واهتم بتنظيم مملكته الجديدة من الداخل؛ إذ عمد إلى خفض الضرائب ونظم التجارة الخارجية والمواصلات وأبعد العرب إلى الصحراء، ولما توطد ملكه بمصر أرسل جيشًا لفتح بلاد العرب؛ فاستولى على جدة لتكون مركزًا للتجارة الهندية ولم تمض ستة أشهر حتى كانت الجزيرة العربية تحت سلطته بما فيها مكة المكرمة والمدينة، وبعدها أمر علي بك أن يُخطب باسمه في الصلوات العمومية وأن تُصك النقود باسمه أيضًا.
بعد أن امتدت دولته إلى الحرمين الشريفين سعى علي بك الكبير لضم الشام، ولكنه لم يكن يعلم حينها أنه يسعى لحتفه؛ إذ عهد مرة أخرى إلى محمد أبو الدهب أن يقود 30 ألف جندي لإخضاع الشام وتمكن بالفعل من ضمها، وكان النصر حليفه، ولكنه حين رأي ما جنت يداه من فتوحات عظيمة حسد علي بك على دولته، ولهذا خطب ود الباب العالي وقرر أن يتفق مع الدولة ضد علي بك مقابل أن ينزع منه الملك ويتربع هو على عرش مصر.
خيانة أبو الذهب
بينما كان علي بك الكبير يحتفل بانتصاره الكبير في القاهرة، كان محمد أبو الذهب يتوقف عن العمليات العسكرية ضد العثمانيين، ويستعد للرجوع إلى مصر، ليس للمشاركة في الاحتفالات وإنما للقضاء على علي بك الكبير، بعد أن نجح العثمانيون في استمالته وإغرائه بحكم مصر إن هو قضى على سيده.
عاد أبو الذهب سريعًا إلى مصر، وسحب في طريق عودته جميع الحاميات التي كان قد أقامها في البلاد المفتوحة، وبدأ يحارب أستاذه علي بك. وقد عجز الأخير عن اتخاذ قرار صارم ضد تابعه الذي خرج عليه، ولم يعد هناك مفر من الصدام بين الرجلين، وانتهت الغلبة فيه لأبي الذهب الذي كان يملك زهرة جنود الجيش المصري، واضطر علي بك الكبير إلى مغادرة القاهرة، والالتجاء إلى صديقه ظاهر العمر، في فلسطين، ومعه ثروته الضخمة و7 آلاف من فرسانه ومشاته، وبدأ في تنظيم قواته والاتصال بقائد الأسطول الروسي الذي راح يمنيه بقرب وصول المساعدات، لكن هذه الوعود تمخضت عن ثلاثة مدافع وبضعة ضباط وعدد من البنادق فحسب.
تعجل علي بك العودة إلى مصر على غير رغبة ظاهر العمر، الذي نصحه بالتريث والتمهل، حتى إذا وصل إلى الصالحية بالشرقية، التقى بجيش أبي الدهب في 26 أبريل 1773 في معركة كان النصر فيها حليف الأخير، وأصيب علي بك في هذه المعركة بجراح، نقل على أثرها إلى القاهرة، حيث قدم له مملوكه أبو الذهب الرعاية الطبية، لكن ذلك لم يغن عن الأمر شيئًا، فمات في 8 من مايو 1773، بعد أن دوخ السلطنة العثمانية، ووضع بذور استقلال مصر عنها.