
تخرجت من الثانوية العامة عام (1396هـ – 1976م)، وحصلت على بعثة للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية. سافرت أنا وأحد الزملاء حيث كان والدي ووالده -يرحمهما الله- صديقين. لم تكن هناك رحلات مباشرة من السعودية إلى أمريكا في ذلك الحين. كانت الرحلة من جدة إلى لندن ومنها إلى بوسطن ثم إلى بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا. توقفنا في لندن 3 أيام وكان الطقس باردا وممطرا لأننا وصلنا في 14 نوفمبر 1977 ميلادي.
كانت تحركاتنا محسوبة وقليلة ومحددة. كنت أتحدث الإنجليزية أفضل من صديقي لأني كنت محظوظا فقد كان معلم اللغة الإنجليزية في الأول ثانوي من اسكتلندا وفي الصف الثاني والثالث كانا انجليزيان، لكن ينقصني إمكانية التحدث والفهم للكثير من المفردات والتراكيب.
دلفنا إلى أحد المطاعم لتناول العشاء وجاءنا النادل ووضع بين أيدينا قائمة الطعام. كنت أنظر إليها نظرة من يرى كتابة بالهيروغليفية مطعمة ببعض الكلمات الإنجليزية مثل شاي وقهوة وماء. وضع صديقي أصبعه على شيء ما في القائمة وبدأ النادل في كتابة طلبه في ورقة كانت بيده، أما أنا فأردت أن أعطي انطباعا للجرسون أنني أتكلم وافهم لغته وأنني على علم ودراية بما هو مكتوب في القائمة. تنحنحت ثم قلت:
I want a kitchen أريد مطبخا
نظر النادل إلي نظرة سخرية مؤدبة، ثم قال:
Would you repeat that again Sir!
هل بالإمكان أن تعيد ذلك؟
قلت وأنا كلي ثقة فيما أقول، واحساسي يقول لي أنه غير عالم بلغته، وسألقنه درسا في لغته الأم
I want a kitchen
نطقتها (وحدة وحدة) مع رفع نبرة صوتي لأسمع (من ناديت انجليزيا)
نظر اليّ نظرة لا أعلم هل كانت شفقة أم سخرية وقال:
Come with me please تعال معي لو سمحت
نهضت من فوق الكرسي ومشيت وراءه، كان بالمطعم بضع أناس مشغولين بالحديث مع بعضهم، وأخذني إلى باب مقفل ودفعه فانفتح الباب ورأيت بالداخل بضعة فتيات وفتيان لا يتجاوزون أصابع اليد وأمامهم صحون وقدور ومواقد للطبخ وأشار بيده إليهم وقال في أسلوب تهكمي تعليمي وببطء:
This is the kitchen
علمت أنه أُسقط في يديّ ورجليّ، وتداركت الموقف وقلت له:
You know hen!
كان المستر وليام معلم اللغة الإنجليزية في الثالث ثانوي(توجيهي) يعلمنا الفرق بين الدجاجة الكبيرة التي تضع البيض وتحتضنه لتحظى بكتاكيت صغيرة تسمى هِن hen، وأما الكتكوتة الصغيرة التي لم تدخل عش الزوجية ولم تضع بيضا بعد تسمى chicken
رد وهو يبتسم:
Yes, I know the hen نعم، أعلم
I want daughter of hen أريد ابنة الدجاجة التي تبيض
ضحك ووضع يده اليسرى على كتفي وقال
You want a chicken!
أنت تريد دجاجة!
قلت ونبرة صوتي كلها فرح وانتصار، فقد فهم مقصدي بعد عناء:
Yes, chicken
شعرت بارتياح لا يوصف فقد فهم ذاك النادل طلبي أخيرا، وكنت أحدث نفسي لما جلست على الكرسي وأمامي الطاولة وصديقي أنه هو من أخطأ في الفهم، وأجزم أنني كنت حديث المطعم والزبائن والشارع والحي كله ذلك المساء.
وطأت قدماي أراضي الولايات المتحدة الأمريكية يوم السابع عشر من نوفمبر 1977، بعد ست ساعات من الطيران فوق المحيط في طائرة تابعة لشركة (تي دبليو إِي TWA)، والتي أقلعت بنا من لندن متوجهة إلى مدينة بوسطن الأمريكية.
وبعد الانتهاء من الجوازات توجهنا إلى مكتب الخطوط لتأكيد رحلتنا إلى بيتسبيرغ فأخبرونا أن الإقلاع بعد 3 ساعات، وسيعلن عن البوابة قبل الإقلاع بوقت كاف.
تجولنا في المطار فلم نشاهد أناسا بهذه الكثافة وأغلبهم من ذوي الشعر الأشقر وانتابني شعور أنني لا أنتمي للمكان ولا الناس. شاهدنا أثناء تجولنا ماكدونلز Mc Donald’s. لم أكن أعرف ما هو.. فهي المرة الأولى في حياتي التي أشاهده، لكنني عرفت من مراقبتي للداخلين والخارجين أنه مطعم، ولمّا كنا نتضور جوعا لأننا لم نأكل في الطائرة خوفا من أن يقدموا لنا لحم خنزير آثرنا الصيام لست ساعات.
وقفت أمام فتاة شقراء تلبس الزي الرسمي للمطعم وابتسمت لي فظننت أنها معجبة بي وسألت:
Can I help you? هل يمكنني مساعدتك؟
قلت:
Two sundwitch اثنان من السندوتشات
نطقت كلمة ساندويتش بالعربية (سندويتش) فلم تفهم وقالت:
Pardon me!
عفوا/ أعذرني (عبارة تدل على عدم الفهم وأحيانا على الاعتذار)
قلت:
Yes, two pardon me نعم، اثنان عفوا(اعذرني)
بدا لي أنها وقحة عندما قهقهت بصوت سمعه كل من في المطار، ولم أفهم سببًا لضحكتها المدوية، فأشارت الى قائمة الطعام الملونة أمامي والتي بدت طلاسم ساحر، وتذكرت ما حصل في المطعم في لندن فقلت لها
I want chicken أريد دجاجا.
وللذكريات بقايا.
بقلم/ علي عويض الأزوري