قررت أنا وصديق لي لما كنا في السنة الأولى في الكلية عام 1983 ميلادي السفر إلى تركيا/ إسطنبول وفي أذهاننا أنها محطة للدخول إلى بلغاريا حيث سمعنا عنها من بعض أصدقائنا الذين سافروا إليها. كانت بلغاريا حينها في المعسكر الشرقي ودولة من حلف وارسو الذي يتزعمه الاتحاد السوفيتي سابقا.
غادرنا من جدة إلى إسطنبول، وبعد إنهاء إجراءات المطار وصلنا إلى أحد الفنادق القريبة من البحر، وبعد أن تخلصنا من وعثاء السفر اغتسلنا لنتخلص من كآبة المنظر. ذهبنا لتناول طعام العشاء في أحد المطاعم القريبة.
كان همنا الأول والثاني والأخير السؤال عن كيفية الذهاب إلى بلغاريا، وعندما عدنا إلى الفندق قابلنا في البهو بعض الشباب السعوديين الذين سافروا وعادوا توا من بلغاريا. أرشدونا إلى بعض المكاتب السياحية التي تتولى رحلات بالحافلة ذهابا وإيابا.
بدأنا في اليوم التالي الترتيب للرحلة المنتظرة وذهبنا إلى أحد المكاتب السياحية وحجزنا رحلة إلى بلغاريا وبالتحديد إلى الرمال الذهبية (قولدن ساندز (Golden Sands. لم نصدق تكلفة الرحلة ذهابا وإيابا بالحافلة مع الإقامة في فندق 4 نجوم لمدة ست ليالٍ وسبعة أيام مع وجبة الإفطار والعشاء. كانت دولارات معدودة وبالتحديد خمسون دولارا. جحظت أعيننا عند سماع المبلغ، ودفعنا 100 دولار عدا ونقدا واستلمنا التذاكر وأبلغونا أن الرحلة تنطلق من إسطنبول بعد يومين.
بعد الانتهاء من الحجز تفرغنا لمعاينة إسطنبول واستكشاف معالمها بدءً من جامع السلطان أحمد ومتحف آيا صوفيا وجسر البسفور، وتركنا باقي المعالم لحين عودتنا من بلغاريا.
كان الشائع في الاعلام عن الشيوعية والدول التي تتبنى تلك الأيدلوجية أنها تنطوي وتحتوي على أفكار منحرفة، وتأثير الأعلام في كل العالم سلاح ذو حدين، ومقولة الإعلام المحايد خاطئة فكل وسائل الإعلام تتبع لمنهجية وسياسة تخضع لعوامل عدة منها ما هو مادي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو مؤدلج. كنت أظن أن سكان تلك الدول مختلفون عنا في كل شيء.
انطلقت الحافلة عند الخامسة عصرا من إسطنبول باتجاه الرمال الذهبية. كانت مقدمة الحافلة ممتلئة بمسافرين أتراك من الجنسين الكبار في السن بعضهم تجاوز الستين عاما. ركبت وصديقي وشخص آخر عرض علينا أن يكون مرافقا لنا فهو على حسب كلامه زار بلغاريا أكثر من مرة ويعرف عنها الكثير. جلسنا قبل المقعد الأخير الطويل وكان وراءنا ثلاثة شباب بدا من سحنتهم وحديثهم أنهم عرب خليجيون، واتضح فيما بعد أنهم سعوديون من المنطقة الشرقية. تجاذبنا أطراف الحديث ووسطه ومقدمته مع الشباب الذين يجلسون خلفنا، وبدأت في الحديث والغناء وإطلاق النكات لأضفي جوا من الحيوية على الحافلة. لم يكن يفهمني غير صديقي ومرافقنا والشبان الثلاثة.
توجه إليّ أحد ركاب المقدمة وكان يتحدث بإنجليزية على عكاز وسألني عن اسمي ومن أين أتيت، فأخبرته، فعرفني على نفسه أن اسمه (أكبر) وأنه تركي الجنسية وتحدث معي وأبدى إعجابه بحيويتي وشخصيتي وطلب مني عدم التردد في طلب أي شيء منه فهو صاحب علاقات ويدير تجارة بين البلدين.
وصلنا إلى الحدود البلغارية التركية وقام السائق بجمع جوازات جميع الركاب ونزل إلى موظفي الجوازات لاتخاذ الإجراءات اللازمة. كان النظام المتبع بالنسبة للسعوديين أن يكتب موظف الجوازات معلومات الجواز في بطاقة ويوضع عليها الختم، وتوضع البطاقة في جواز السفر وعند الخروج يتم تسليم البطاقة ولا يوضع أي ختم في الجواز منعًا وتحاشيًا للمشاكل.
وصلنا إلى الفندق مع تباشير الصباح الأولى وأنهينا متطلبات السكن وذهب كل منا إلى غرفته ليحظى بقسط من النوم والراحة.
صحونا من النوم بعد الظهر وتقابلنا في بهو الفندق لنبدأ في اكتشاف المدينة، والبحث أولا عن مطعم مناسب لنأكل، وكنا نحتاج أيضًا إلى صرف ما معنا من دولارات كلٌّ على حسب حاجته. أخبرنا الأخ الذي عرض علينا مرافقتنا أن المئة دولار تساوي 200 ليف أو ليفا، وتصادف قدوم (أكبر) فأخبرته أنني أحتاج إلى صرف مئة دولار، فطلب مني الانتظار، وما هي إلا بضع دقائق وجاء بمعيته شخص بلغاري وأخذ مني المئة دولار ونقدني 420 ليف أو ليفا. عندها علمت أن صاحبنا لا يفقه شيئًا في بلغاريا وأنه (مضروب على قفاه).
تتمتع القولدن ساندز بجمال ساحر فهي منتجع كبير تتلاقى فيه الجبال المغطاة بالأشجار حتى تكاد أن ترى لونها من كثافتها أخضر مائل للسواد مع زرقة البحر اللازوردي. ويمنع دخول السيارات الخاصة فهناك سيارات أجرة وحافلات صغيرة لنقل السياح في ثنايا المدينة أو إلى مدينة فارنا Varna ثاني أكبر المدن بعد العاصمة صوفيا. وتنعم بكل وسائل الراحة والترفيه.
لاحظت أن المواطنين مغلوبون على أمرهم فهم داخل سجن كبير، وينقصهم الكثير. كنت إذا أخرجت علبة السجائر المارلبورو يتهافت الإناث والذكور لأقدم لهم سيجارة، وكان الجينز حلمًا يلبسونه، فهو يعتبر ملبوس الأغنياء، وأذكر أنني زرت بولندا بعد سقوط الشيوعية وتعرفت على عائلة هناك ودعوتهم إلى ماكدونالدز ولكم أن تتخيلوا مدى فرحتهم حيث أخبرني والد العائلة أن ماكدونالدز للطبقة الوسطى العليا upper middle class والطبقة العليا.
تحدثت مع بعض البلغاريين وكان حديثهم عن الغرب وحياته، فهم يتمنون الخروج في يوم ليعيشوا في أمريكا أو إحدى دول أوروبا الغربية، وفهمت منهم أنه لا يسمح لهم بالخروج إلا لحضور مؤتمر مع ضمانات بالعودة أو المشاركة في مناسبات وبطولات رياضية، وأذكر أنني قرأت بعد ذلك عن طلب اللجوء السياسي من بعض اللاعبين من دول أوروبا الشرقية لدول أوروبا الغربية لما تسنى لهم المشاركة في بطولات خارج بلدانهم. كانت المرتبات متدنية مقارنة بأماكن أخرى في العالم، وعلى سبيل المثال كان راتب محاضر في الجامعة لا يتجاوز عشرين دولارا، لكنها كانت كافية مع الأخذ في الاعتبار توفير السكن والكهرباء وغيرها من الخدمات، لكن الإنسان يتطلع إلى الأفضل دائمًا حتى لو كان في الأفضل خسائر على المدى الطويل.
كان السياح الروس هم الأغلبية في القولدن ساندز وقابلت بعضًا من الإنجليز، وفتحت شهيتي تلك الرحلة لزيارة دول شيوعية أخرى منها المجر، ورومانيا، وتشيكوسلوفاكيا، ويوغسلافيا؛ والسبب التكلفة التي كانت لا تتجاوز المئتين دولار في أسبوعين.
والذكريات صدى.
بقلم/ علي عويض الأزوري