الأدب والثقافةفن و ثقافة

صبحي فحماوي يخوض رحلة بحث في ‘الأرملة السوداء’ عن ولادة جديدة

تطالعنا رواية “الأرملة السوداء” لصبحي فحماوي بعرض السارد لأحد الأفلام الوثائقية التي شاهدها المدعي العام شهرزاد في مركز البحث الجنائي والتي تتصل بمجال بحثه، حيث يعتزم تقديم رسالة دكتوراه حول “الجريمة النسوية” بعنوان “الأرملة السوداء”، وإذا كان الفيلم/العرض قد حرص على إبهار المشاهد/شهريار بتصرفات العناكب من خلال رصده رحلة أنثى العنكبوت داخل حديقة أثناء بحثها عن ذكر العنكبوت ليشاركها في عملية الإخصاب التي أسفرت مشاهدها على امتصاص رحيق ذكورته وشفطها دون أسف على حياته، فإنه أي العرض، بوصفه رؤية للعالم من خلال وسائله ووسائطه المتخصصة والمتنوعة، يخاطب العين حاسة الإبصار حيث تغدو الصور التي التقطت في عالم الواقع هي الكائنات الواقعية.

يقول السارد “بعد أن تبرد أوصالها تنقشع الوصيفات من حولها. تشعر بفعلتها المشينة، ولكنها تتناسى خطيئتها إذ يبتدئ بطنها بالانتفاخ، ويبدأ سبعمائة جنين بالحركة داخل أحشائها، فيزداد لونها كمدا، وبفراقه تزداد لوعة عليه، إذ أنه لو كان موجودا هذه اللحظات لقام بمساعدتها على بلوغ الهدف، ولقدم لها خدمات جلى تفتقدها بفقده!. تشعر بالذنب فتلبس السواد على زوجها المرحوم، معلنة عليه الحداد، فتطلق وصيفاتها عليها اسم “الأرملة السوداء”، وتبقى هكذا معتكفة، تحتضن أجنتها حتى يشاء المولى لها، فتعيش بعده عمرا طويلا!”.                                                  

يلتقط السارد، في ضوء هذا العرض البصري، رحلة صراع عنصر الذكورة وعنصر الأنوثة في الطبيعة من خلال اقترانهما وتناقضهما وتفاعلهما معا، كما يطرح ثنائية الأمومة والأبوة. ومن هذا المنظور، فإن الشخصية الرئيسة شهريار تكشف منذ بداية بحثها (القائم على الخروج من قاعة العرض ـ العبور إلى الفضاء الخارجي ـ العودة إلى قاعة مناقشة الرسالة) عن توجهها الأبوي، فشهريار يشدد على أن أنثى العنكبوت تقترف جنايات خطيرة بميلها إلى قتل شريكها بعد أن يؤدي غرضه التناسلي منها، بينما تقلل أنثى العنكبوت من أهمية هذه الجناية وتشدد، بدافع من نزوعها الأمومي، على ثمرة اللقاء التناسلي وعلى أهمية إنجاب الذرية والمحافظة على الحياة. وهو ما حذا بشهريار إلى وسم بحثه لنيل شهادة الدكتوراه بـ”الجريمة النسوية”، مثلما حذا بالسارد، في اعتقادي، إلى تقديم شهريار في “صورة” العابر” بكل ما تمثل في تحولاتها من تحول العدم إلى وجود، ومن “تحول الظلمة الدائم إلى نور، بحيث إن الكيمياء تمثل بشكل نموذجي تاريخ الإنسانية وفي الآن ذاته البنية الحالية للمجتمع”.                                           

ها نحن أمام دعوى تغري المدعي العام شهريار إلى المغامرة ببداية بحثه، ويوجهه مساعده الفيلم الوثائقي عن أنثى العنكبوت إلى انتصار الأنثى على الذكر بيولوجيا ونفوذها عليه. ويكشف توالي الفصول عن سارد عليم بكل شيء، يعرض تصوراته عن “ماذا لو التقى شهريار الأسطورة مع شهرزاد في هذه الأيام الحديثة، فهل الرجل، من حيث علاقته بالمرأة، يمثل حقيقة الهيمنة الذكورية أمام أنوثة المرأة؟” أو إن الأمر على العكس من ذلك، إذ أن المرأة هي التي تمثل الهيمنة الأنثوية أمام ذكورة الرجل؟ أم أن الأمر يتعلق بإنسانية الإنسان التي تجمعهما معا. وعلى كل حال، فقد “سرح فكره في هذا العالم الأنثوي الذي يبحث الرجل فيه عن ممر آمن داخل شبكة العنكبوت الحريرية الناعمة اللدنة”.                                                                      

وهكذا، يعرض السارد أمام القارئ مشاهد عن حضور شهريار في المجتمع وعن نزوعه الأبوي الذكوري بعد عبوره من عالم الصور داخل المركز الجنائي، إلى عالم الواقع المعيش، فيعرضه السارد أمامنا شابا مثقفا في الأربعين من عمره، بعدما كانت قد حلت فيه، وهو رضيع، حسب والده سراج البدر، روح الملك العظيم  شهريار ملك ألف ليلة وليلة، لكنه، عاش طفولة بائسة قرب “مقبرة عيشة” في جبل النظيف. وبعدما كبر انتقل إلى غرب عمان، حيث درس القانون في الجامعة الأردنية وحصل على شهادة الماجستير، فعمل مدعيا عاما. ولأنه كان يعاني من عقدة ضد المرأة بشكل عام، ومن الأنثى لا الأنوثة بشكل خاص، حيث كان يرى، وفق رؤيته الأبوية الذكورية، أن الذكر يحيا مظلوما طوال حياته، بما أنه يعيش ويموت في خدمة الأنثى التي ما تنفك تستغله في كل شيء. وعليه، فقد قاده خوفه هذا على جنس الذكر من مآل الانقراض إلى التفكير في إنشاء “جمعية حماية الرجل”، كما انكب على تحضير رسالة الدكتوراه في موضوع “الجريمة النسوية” تحت عنوان “الأرملة السوداء”.                                                     

ولأجل الحصول على معطيات ومعلومات يطعم ويعزز بها أطروحته، قصد “شهريار” عيادة الأخصائي في الطب النفسي “بديع الطاهر”. وهناك التقى خلال زياراته العيادة “شهرزاد” التي قصدت العيادة، بدورها، لغرض تحضير رسالة الدكتوراه في “الاكتئاب النسوي”. فقد لفته اسمها كما لفتها اسمه وأحال كل واحد منهما الآخر إلى حكاية شهريار وشهرزاد، فالأخيرة ترى أن الرجل هو “حظ المرأة العاثر” ومصدر كآبتها، خاصة أن أباها حرمها من حقها الشرعي في الإرث لصالح إخوتها الذكور. وهكذا، فبعدما تبادل كل من شهريار وشهرزاد، النظر والكلام أمام عيادة الأخصائي، عقدا معا “لقاء في صالة الرومانس”، ارتاح خلاله شهريار لشخصية شهرزاد، كما أعجب بها وبمواقفها المنطقية وحججها الدامغة في التعبير عن مواقفها، رغم تعارضها، أحيانا مع مواقفه، فقام بتعريفها بطبيعة “جمعية حماية الرجل” التي أسس مع مجموعة من المهتمين، وكذلك بأهدافها الرامية إلى تفعيل “المساواة بين الرجل والمرأة”.                                                      

وتبعا لذلك، اقترح عليها الانضمام إليها من خلال تقديمها طلب شغل وظيفة “سكرتيرة الجمعية” كي تتعرف إليها أكثر، وتعبر عن وجهة نظرها في اهتماماتها بعمق، فوافقت، ونجحت في ترتيب ملفاتها، وفي الدفاع عن توجهها الأمومي الذي يشدد على قيم أساسية من قيم “الإثمار العفوي”، و”الولادة الجديدة” و”الدورات الطبيعية”، و”المحافظة على الحياة”، بل ودفع شهريار، ومعه أعضاء المكتب إلى تليين مواقفهم تجاه المرأة، وإلى الانفتاح على الرأي الآخر، فالرجل والمرأة معا مخلوقان إنسانيان متساويان يعيشان معا تحت وطأة الجور ونير العنف، والمنطق يحتم حماية الإنسان، ذكرا كان أو أنثى، من الظلم والقهر والإذلال.              

هكذا، يتابع السارد موقف “شهرزاد” واعتراضها القوي على ظلم الرجل للمرأة وموقفه السلبي منها، خلال الندوة التي أعدها الدكتور مصطفى الجمال في موضوع “عذابات الرجل” والتي سرد خلالها عدة مفارقات مدعمة بمداخلات الأعضاء، وبأقوال واقتباسات من مؤلفات لروائيين ومفكرين وشعراء “تؤكد أن الرجل ينوء بتبعات المرأة الملقاة على عاتقه، وهذا يحتاج إلى اعتراف المرأة وتقديرها!”.

وهنا شعرت السكرتيرة شهرزاد أنها ستنفجر، ووجدت نفسها مضطرة للتدخل بقولها “لماذا تركزون على مثالب المرأة، ولا تذكرون حسنة واحدة من حسنات التي حملت بكم، ثم ولدتكم وربتكم وعلمتكم وحمتكم وأطعمتكم حتى بلغتم الكبر، وما تزالون بحاجة إلى حنانها ودفء حضنها الرؤوم؟ (…) تتحدثون عن تطفل المرأة على الرجل، وأنتم لا تدركون تطفلكم على أمهاتكم منذ الولادة وحتى ممات الأم! ترى من الذي يتطفل على الآخر؟ (اللهم لا اعتراض) هل الرجل الذي يأخذ بالوراثة مثل حظ الأنثيين هو الذي يتطفل على أخته، أم هي التي تتطفل عليه بالقبول بنصف ميراثها، هذا إذا لم يتم نقل الميراث كله بالترغيب والترهيب إلى الإخوة، وحرمان الأخوات منه؟ تقولون عن المرأة التي تحب الشباب، وكأن الرجل “المسكين” لا يفضل الصبايا من النساء، مثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيمانه! وكأن المرأة تحب حائطا وليس رجلا مثلها”! وفي نهاية مرافعتها قالت “كفاكم تطاولا على المرأة، واذكروا إيجابياتها، تماما كما تذكرون سلبياتها التي أعترف بها، ولكنها لا تزيد عن سلبيات الرجل”!.        

هكذا، استطاعت شهرزاد باستثمارها الحكي ومكر اللغة معا، شأنها في ذلك شأن شهرزاد ألف ليلة وليلة، تليين موقف لا شهريار فحسب، بل وأعضاء جمعية “حماية الرجل” جميعهم الذين ارتأوا، نتيجة ذلك، توسيع نشاطهم التوعوي، ومن ثم “تأمين إكسير سحري” يفيد المجتمع ويعالجه، فقاموا بتحويل اسم ومشروع وأهداف جمعيتهم إلى “جمعية حماية الإنسان”، كما اكتملت رحلة بحث كل من شهريار وشهرزاد بحصولهما معا على شهادة الدكتوراه. 

تطرُق رواية “الأرملة السوداء” موضوع انبثاق المعاني السامية من أعماق عالم الهامش انبثاق النور من العتمة. ولأجل عرض الكيفية التي يرتئي من خلالها السارد إعادة العلاقة بين الرجل والمرأة، بصفتهما معا كائنين إنسانيين متساويين، إلى حالتها الطبيعية، وتجاوز التصورات القائمة على الخداع والمكر والمؤامرة بينهما، عمد إلى سرد قصة نجاح مصالحة بين رجل ترهبه المرأة وتخيفه مع امرأة ناقمة على الرجل وظالمة له. مثلما عمد، أي السارد إلى تمثيل هذا الواقع المعيش المفتت، كما تعكسه، على الأقل، عناوين الفصول السبعة والعشرين، فعرضه أمامنا، وهو ينحو نحو استشراف وإعادة بناء واقع مغاير تماما لهذا الواقع القائم. لذا، لجأ إلى استحضار أسطورة “شهريار و”شهرزاد” عبر إعادة بعث روحيهما معا، في أيامنا هذه، في جسد طفل/ شاب فلسطيني مغترب مع أسرته في عمان يسمى شهريار، وطفلة/ شابة، لها نفس أصول شهريار تسمى شهرزاد، وعلى أساس هذا الحديث عن هذه الخصوصية الحميمة، وهذا التطابق الأبدي بينهما معا، نسج لهما علاقات ومواقف ومصادفات تولدت عن حركتها أسئلة قديمة/جديدة تتعلق بمعاني الأنوثة والذكورة والأمومة والأبوة، والأنا والآخر، والواقع والمتخيل.                                                              

لعبة العنوان: “الأرملة السوداء”

يشعر قارئ عنوان رواية “الأرملة السوداء” منذ الوهلة الأولى بالتباس دلالي يدفعه إلى التأمل في إيحاءاته ومدلولاته، وفي العلاقة القائمة بين كلمتي “الأرملة” و”السوداء” اللتان تلقيان معا بظلالهما على النص، فهل الأمر يتعلق بعلاقة وصف، حيث تشير الكلمة الأولى إلى المرأة التي فقدت بعلها، أو مات معيلها؟، بينما تشير الثانية إلى صفة السواد التي تميز هذه الأرملة، سواء تعلق الأمر برداء حدادها، أو تعلق بلون بشرتها!، أو إن كان الأمر يتعلق بنوع من العناكب يحمل هذا الاسم؟. وهكذا، سيلاحظ القارئ أن عنوان “الأرملة السوداء” ورد بصيغته الكاملة في الصفحات (13ـ 32)، وبصيغته الجزئية في الصفحة 188.                         

وإذا كان السارد قد عمد إلى إيهام القارئ بإزالة هذا الالتباس في نهاية الفصل الأول المعنون بـ”هي” والذي يعرض من خلاله مشهدا تناسليا شبقا ومميتا للذكر في نهايته، وعمد إلى إخبارنا بأن الأمر في هذا المشهد السردي يتعلق بـ”أحد الأفلام الوثائقية التي شاهدها المدعي العام شهريار في مركز البحث الجنائي، الذي يعرض قضايا ثقافية تتعلق بالجنايات الكبرى لدى الناس والحيوانات معا، وذلك في مجال بحثه، لتقديم رسالة دكتوراه حول “الجريمة النسوية” بعنوان الأرملة السوداء”، فخرج من هناك مبهورا بتصرفات العناكب!.”فقد ختم، أي السارد، نهاية السطر الأخير بكتابة عبارة “الأرملة السوداء” منفردة، وكأنها تقوم مقام توقيع السارد مع القارئ ميثاق قراءة رواية “الأرملة السوداء” بصفتها رواية وأطروحة في الآن ذاته.                                  

وتبعا لذلك، سيعود السارد ليذكرنا في الفصل الثالث المعنون بـ”عقدة شهريار” في الصفحة 32 بأن شهريار، الشخصية الرئيسة، صار اليوم مدعيا عاما معروفا، بعد أن حصل على درجة الماجستير في تخصص الجنايات، يواصل رصده الذكوري، ويحضر لتقديم رسالة الدكتوراه الموعودة، تحت عنوان “الأرملة السوداء”. مثلما سنجده، كذلك، في الصفحة 143 يعود فيشرح للأخصائي النفسي بديع الطاهر تحديات الانقراض التي يتعرض لها الذكر إنسانا كان أو حيوانا، بأن “علاقة الأنثى بالذكر، لا تختلف عن علاقة الأرملة السوداء بذكر العنكبوت!”.                                                                

أما في الصفحة 188، فأثناء متابعة القارئ حديث الدكتور علاء الكاشف حول معاناة الرجل، وخاصة الرجل الأفريقي المستعمر الذي يساق للقتل بينما تساق زوجته لخدمة الرجل الأبيض، وفي أحسن الأحوال يموت الرجال “في الحروب وينتهون+، وأما أراملهم فهن يقبضن معاشات الشهداء، ويواصلن الحياة”. يتابع كذلك، على هامش الصفحة، استشهاده بقول مقتبس من رواية “أصوات الليل” لمحمد البساطي، حيث “العربة مكدسة بهن.. يلبسن الأسود.. أمس الأول صرفن المعاش بالزيادة.. تتساءل أرملة شهيد قائلة: هو صحيح يا خالة أنه طلع قانون جديد يسمح للواحدة تتزوج وتأخذ المعاش؟ تضحك الأرملة بدرية وتقول جاء القطار رحمة لنا”.

وفي ضوء الإحالات السالفة، يبدو في اعتقادي أن السارد يستعير لفظة السواد والليل والظلمة والعتمة للدلالة على صورة المجتمع/الشعب كقولنا: السواد الأعظم من الناس، ثم إنه وهو يدفع بالقارئ إلى أن يشعر بنوع من التعاطف نحو هذا الكائن الفريد الذي يظهر فرط غرابته، وفرط ما يزخر به هذا اللقاء التناسلي الشبق، من قوة خارقة ومن قدرة الأنثى على التجديد في الطبيعة، ومن فتنة وسر ومفاجأة تنتهي بسحق الذكر. كما يبدو أن السارد قد استعار هذا الكائن لأنه يستمد استمراريته من تضحياته، ولأن حال وجوده شبيه بحال وجود شعب وجد نفسه هكذا محاصرا بشكل تكثف خلاله رحلة موت وحياة مجتمع في مصير فرد واحد. وهو يفكر في مآسي قاع المدينة.                               

وفي هذا السياق، حيث يلاحظ القارئ أن السارد قد عمد إلى توجيه نظره نحو القسم الأسفل من الصفحة “الأرملة السوداء ـ رواية أطروحة”، فهو يبتغي بذلك توجيهه، في اعتقادي، في مستوى أول، إلى تلك “الطبقة العميقة للكتابة” التي تعد، وفقها، الحكايات الشعبية المتسلسلة على غرار حكاية شهرزاد وشهريار. وتوجيهه، من ثم، في مستوى ثان، إلى هذا المخلوق الإنساني الذي يعيش على هامش المجتمع، ويرزح في الطبقات السفلى، فبتأهيله يمكن أن تتغير ظروف التواصل العام داخل المجتمع الذي سيسهم، بدوره، وفي انبثاق وتوالد الأشكال الجماعية للإبداع، وفي استمرار حركة عجلته في الدوران.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى