
وللسفر في (المختار) نصيب جيد فتحتوي المجلة على قصص تحكي تجارب أناس من أوروبا وأمريكا ورحلاتهم بالقطار والسفن والحافلات ووسائل أخرى، وهناك شرح لطريقة السفر والحصول على التذاكر وأنسب الأوقات والأماكن.
قررت خوض تجربة السفر عبر أوروبا بالقطار في عام 1984، وحسب المعلومات التي حصلت عليها من مجلة المختار، هناك تذاكر تباع في محطات أوروبا تسمى يوريل باس EurailPass وتعني تذكرة مرور عبر أوروبا. هذه التذكر تسمح للمسافر التنقل وزيارة جميع دول أوروبا الغربية في الدرجة الأولى في القطار وثمنها 300 دولار ومدتها ثلاثة أشهر.
اشتريت تذكرة ذهاب فقط إلى باريس واخترتها نقطة بداية للتنقل عبر أوروبا. وصلت باريس وسكنت في شقة قريبًا من نهر السين. كان هاجسي الأول شراء تذكرة القطار وحصلت عليها من محطة قطارات غار دو نور، وزودني مركز المعلومات بالمحطة بجدول الرحلات، وأجاب عن أسئلتي المتعلقة بالوقت وأرصفة المغادرة وقراءة الشاشات التي تظهر عليها الرحلات ووجهاتها وأوقاتها.
تتميز التذكرة بُـحرية النزول في أي محطة وفي أي وقت، ومن ثم الركوب مرة أخرى ومواصلة الرحلة مما يسمح للمسافر مشاهدة أكبر عدد ممكن من المدن والقرى في طريقه للمكان الذي يرغب أن يكون وجهته الأخيرة. بمعنى إذا أراد المسافر التوجه من باريس إلى روما يستطيع أن ينزل في كل المحطات التي يقف بها القطار المدة التي يرغبها ثم يكمل الرحلة لوجهته الأخيرة.
والميزة الأخرى للسفر بالقطار التعرف على جنسيات مختلفة من كل الأعمار فلا فروق اجتماعية أو عرقية، والاختلاط بثقافات متنوعة تضيف للمسافر معلومات ربما لا توجد في الكتب، والاستزادة من تجارب الآخرين في السفر مما يغير مفاهيم كثيرة، وأحيانا يترتب على ذلك تغيير الوجهات والمقاصد.
قررت أن أتمتع بباريس.. كيف لا؟! وهي الحسناء التي بها اللوفر، وقصر فرساي، وبرج إيفل، وبوابة النصر، والشارع الأشهر (الشانزليزيه)، ومتحف الشمع.. وهو غير متحف الشمع الذي في لندن (مدام توسان).
قدّر لي التعرف على مذيعة كانت هي الأشهر في عالمنا، تُسحِر بصوتها الحالم آذان وقلوب المستمعين، ويتهافت الآلاف من العرب من المحيط إلى الخليج على الاستماع لها وهي تقدم برنامجها كل ليلة في إذاعة مونت كارلو، تلكم هي (هيام). جمعنا عشاء بسيط في أحد مطاعم باريس، كان بمعيتها مخرج لبناني ومذيعة أخرى من مصر وتجاذبنا أطراف الحديث ومقدمته وناصيته؛ كان لقاءًا أنيقًا وجميلًا بجمال الحاضرين (وأنا أولهم).
دعاني في الليلة التالية مخرج لبناني ومهندس صوت لحضور حفلة للشحرورة صباح في أحد المطاعم الفخمة، وكانت ليلة شحروريه صباحية.
ركبت القطار حوالي السابعة مساء من باريس متجها إلى (كان Cannes)، كانت الرحلة حوالي 8 ساعات، وكنت أحمل حقيبة يدوية handbag بها ملابسي ومأكولات خفيفة. لم أكن أحمل معي آلة تصوير (كاميرا) فلست ممن يحبون التقاط صور لكل شيء، فالكتابة عندي أبلغ وأجمل. وضعت حقيبتي في الكابينة التي بها كرسيين طويلين متقابلين وكل كرسي يتسع لثلاثة أشخاص، وقفت في الممر أتفرج من خلال النوافذ الزجاجية على جمال الطريق والطبيعة بين أشجار وأنهار وجبال، لوحات إلهية تزيد السفر بالقطار رونقا وجمالا.
توقف القطار في عدة محطات، منها مدينة ليون، ونزلت لأتجول لساعة ثم عاودت إكمال الرحلة.
وصل القطار إلى مدينة (كان) الساعة الرابعة صباحًا، كنت متعبًا ومنهكًا؛ خرجت من محطة القطارات وبحثت عن فندق قريب لا يهم عدد نجومه، لألقي عظامي وجسمي على سرير أيا كان نوعه. دخلت إلى فندق كان الظلام يسود بهوه إلا من إضاءة خفيفة في أحد الأركان. كان هناك رجل تجاوز الستين يقف خلف طاولة الاستقبال يلبس زيًّا أبيض يناسب شعر رأسه وشاربه. ألقيت عليه التحية بالإنجليزية ثم الفرنسية (لا أتكلم الفرنسية لكن أعرف بضع كلمات وعبارات) وسألته بالإنجليزية عن توفر غرف، قال: لا يوجد.
أحسست أن الإضاءة أطفئت في عينيّ عندما سمعت جوابه وتمتمت ببعض كلمات مسموعة بالعربية، تبسم الرجل العجوز ثم قال: أنت عربي، قلت نعم، قال: امنحني بضع دقائق وتفضل بالجلوس حتى أعود، وما هي إلا برهة حتى عاد وقال تفضل لقد جهزت لك غرفة على السريع لترتاح فيها، وإذا صحوت اطلب غرفة ثانية أو اطلب تنظيف الغرفة بشكل كامل. كان ذلك الرجل جزائريا ونشأت بيننا صداقة مع أن فارق السن بيننا كان أربعين سنة.
دخلت إلى الغرفة فإذا هي تناسب إمكانياتي والهدف من ترحالي.
قرأت في (المختار) عن فندق فخم فاخر في باريس زاد عن عدد النجوم في التصنيف، فعقدت النية على رؤية ذلك الفندق الذي كانت تكلفة الليلة الواحدة في الجناح ثلاثون ألف فرنك فرنسي أي ما يعادل 15 ألف ريال سعودي، كان ذلك المبلغ يفوق ميزانية رحلتي بنسبة 50%.
وللفضول نصيب من شخصيتي، فذهبت للفندق ومعي شخص من جنسية عربية يعيش ويعمل في باريس، اتفقنا قبلا على سيناريو معين فقدمني على أنني الشيخ علي، وأرغب في رؤية تلك الأجنحة الخيالية لأنني أنوي السكن في أحدها. اصطحبنا أحد العاملين في الاستقبال وفتح باب الجناح. لا أنسى منظر النافورة الدائرية في منتصف الجناح ومكتبة تحتوي على العشرات من المكتب، وصالون استقبال، وواجهة زجاجية عريضة تطل على نهر السين، أما غرفة النوم عندما شاهدتها خيل لي أن السرير لو نمت عليه لتولى مهمة الأحلام عني، كانت هناك لوحة مزركشة في أعلى السرير مكتوب عليها عبارة بالفرنسية وسألت مرافقي عن تلك العبارة، فقال: إذا لم تستطع النوم فلا تلقي باللوم على الجناح ولا السرير، وإنما على ضميرك.
تذكرت تلك العبارة وأنا ألقي بجسدي المنهك على السرير، ودخلت في نوم عميقٍ خالٍ من الأحلام المزعجة والوردية. صحوت بعد الظهر وتحممت ولبست وخرجت من الفندق أبحث عن مطعم لأتناول شيئا ثم أبدأ الرحلة الاستكشافية. عدت في المساء للفندق ووجدت الشيخ الجزائري وجلسنا نتحدث لساعتين، وسألته عما يمكنني مشاهدته في (كان) و (نيس) فقام بترتيب بعض الرحلات باليخت والحافلة لمشاهدة بعض المعالم في المدينتين. أمضيت ستة أيام وخمس ليال بين (كان، ونيس) أنعم فيهما بنسائم شواطئ الريفييرا الفرنسية التي تضفي على الذهن راحة نفسية، وعلى الروح نفحةً شاعرية.
عزمت على مواصلة الترحال وكانت إيطاليا هي وجهتي القادمة.
والذكريات تتضخم.
بقلم/ علي عويض الأزوري