تشكيل وتصويرفن و ثقافة

أوروبا تحتفي بفنانات وفنانين من أصل عراقي

بدا النصف الأول من 2023 استثنائيا في احتفائه بإنجازات فنانين وفنانات من أصل عراقي في القارة الأوروبية.

أقامت الفنانة العراقية ميسلون فرج معرضا في باريس وأصدرت خلاله كتابها Home Lockdown 2020-2022، وصدر كتاب آخر عن الفنانة العراقية سعاد العطارSuad Al Attar، وحاز الفنانان حسين علي حربة في شهر مايو/أيار 2023 على جائزة الفرجال الصناعي وهي جائزة وطنية مرموقة في إيطاليا، وافتتح الفنان أثير موسوي معرضا شخصيا متميزا في شهر يونيو/حزيران الماضي في واحدة من الغاليريهات الحديثة وسط لندن.

الممتع حقا في إحتفاء كهذا بفنانيين من أصل عراقي هو الاعتراف الضمني بضرورة التلاقح الثقافي في أرجاء العالم في أجواء أضحت فيها العولمة ممارسة يومية مألوفة؛ ما أنتج مثل هذه المجموعة من الفنانيين ذوي ملامح مركبة تشكلت من تنوع المصادر الفنية وتراكب تشكيل الهوية.

تقدم هذه المقالة مراجعة سريعة لكتابي فرج والعطار، وجولة مماثلة في إسهامات الفنانيين حربة وموسوي لإستغوار بعض مفاهيم احتكاك الثقافات وتأثيره. التركيز هنا على الجديد الذي يقدمه الفن العربي خارج الشرق الاوسط، وعلى إمكانيات الابداع المفتوحة للفنانيين والفنانات العربيات في تواصلهم مع قضايا العصر ومع جذورهم الحضارية.

ميسلون فرج.. الفن ووسائل التواصل الإجتماعي

يشكل كتاب ميسلون فرج Home Lockdown 2020-2022ومعرضها المنفرد في باريس انعطافة طريفة في تاريخها الشخصي وتاريخ الفن عموما إذ يعتمد الاثنان على إبداع أعمال فنية أنتجت خلال الحجر الصحي لجائحة كورونا. و الأطرف من هذا هو ربط هذا الإنتاج بوسائل التواصل الاجتماعي حيث ظهرت كل هذه الأعمال على صفحة خاصة في منصة فيس بوك. وفرت هذه الصفحة مجالا إبداعيا لما يزيد على ألف مشترك لتصوير أماكن عيشهم، وبخاصة بيوتهم، ومشاركة الآخرين في هذه العملية من خلال التعليق على الأعمال الفنية.

يبدو أن المشاركة الجماعية في تصوير البيوت فتحت لأعضاء صفحة الفيسبوك أبوابا لإعادة تخيل معنى الحياة في حيز محدد نسميه بيتنا، وهذه العملية ساعدت بدورها في تأسيس علاقات إنسانية وعاطفية بين المشاركين في العالم أجمع، مثل مشاركتهم في المعاناة من كوفيد والتصدي لقهره. ثم إمتدت هذه العلاقات لتشمل زوار المعرض في باريس كما ذكر بعضهم.

ولا شك أن هناك ترابطا بين المنزل كشيء ملموس والهوية لأن البيت ليس فقط حيزا نقتطعه لأنفسنا ونسكنه، بل هو أيضا مجال تختبر فيه مفاهيم الانتماء والاصول والمواطنة، وهي أشياء تظهر في الأعمال الفنية نفسها.

وذكرت ميسلون فرج أن لوحاتها الكثيرة عن البيت لفتت نظرها لمسألة انتماءها لمدينة لندن التي تعيش فيها لأكثر من ثلاثة عقود، ومن يتابع أعمالها يرى أبعادا حميمة لصورة مدينة لندن.

أقيم المعرض في غاليري مارك هاشم في منطقة مارياس في باريس التي تعج بالمعارض الفنية، أما الكتاب المرافق للمعرض فقد نشرته الفنانة فرج نفسها وهو يحتوي بالاضافة إلى اللوحات، على تعليقات ذكية مطولة تتابع فيها الفنانة العملية الإبداعية وهي تمتليء بالرؤئ والصور، وهكذا تفتح لنا الفنانة أعمالها وكأنها تفتح لنا أبواب بيتها الواسع الحميم.

كما يحتوي الكتاب على فصلين لكاتب هذه السطور تستكشف جوانب أخرى من أعمال ميسلون فرج. الكتاب في 155 صفحة، وهو عمل فني بحق إذا يجيء بنسخ مرقمة تحمل توقيع الفنانة.

سعاد العطار.. سرد فني فريد

يشعر القاريء لكتاب المؤلفة نسمة شُبّر عن الفنانة العراقية سعاد العطار (ولدت عام 1942) كأنه وسط سيل من القصص المترابطة الممتعة. فهو بالإضافة للتعليق النقدي على أعمال رائدة فريدة، يقدم سياقات ثقافية وفنية وإجتماعية تغني الأعمال الفنية.

وهكذا يتأسس النقد الفني ببنائه القصصي على مداخل تقنية للفنانة العطار نفسها، بخاصة إدراكها العميق للهياكل السردية في أعمالها. يقع الكتاب في 216 صفحة من القطع الكبير، ونشرته دار هيني (Heni) في لندن سنة 2022.

أحد السياقات الضرورية في الكتاب هو التاريخي والشخصي، وهنا تقدم شُبّر بإنضباط التفاصيل الأساسية لفهم سيرة غنية متفردة تحوي متناقضات لابد من معرفتها لأنها تساعد على فك رموز أعمال الفنانة. منها زيجة مبكرة فرضت على العطار وأشعرتها بمحدودية سلطتها إزاء سلطة العائلة، وهذه نقطة تستحق التوقف والفحص لتذوق تصوير العطار لنساء عديدات في لوحاتها وهنّ يظهرن متميزات مع شعور غريب بإنكسار ومعاناة تبدو للوهلة الاولى كأنها لا تتفق مع صورة المرأة الباهرة.

وهناك أيضا مضامين توضح جوانب أخرى من أعمال العطار تعد جوهرية للتعرف على تمييز الفنانة لتنوع ثقافاتها ولتنقلها بين هذه الثقافات. حياة العطار في العراق في بيئة محافظة، وحياتها في أمريكا وشعورها بالوحدة والعزلة، ثم حياتها واستقرارها في لندن هي تجارب تتحكم في تصويرها لمواضيع لوحاتها.

والهوية والانتماء مواضيع أخرى تتكرر في لوحات العطار. فهي لم تنفصل عن أصولها في العراق، ولم تنفصل عما يجري في بلد الأصل. لوحاتها عن حروب العراق المريرة تشعرنا بألم عميق لعجز الفنانة عن عمل أي شيء لتقليل معاناة مأساوية لا يلتفت لها الكثيرون. لكن الفنانة تدرك أيضا ضرورة مواكبة ما يحدث وتدوين شهادات ثمينة تبقى طويلا بعد الأحداث التاريخية.

ولكون الفنانة جدة الكاتبة، يقدم الكتاب أدلة مهمة على أعمالها، فهو حوار مستمر بين نتاج فني متراكم من ناحية، وجهد نقدي راكز وسلس من ناحية أخرى. ويحتوي الكتاب على توازن ممتع بين السياقات السردية والحضارية للوحات العطار وعلى التعليق الفني والمهني الذي ينير هذه الأعمال ويفتح أبواب الحوار عنها.

حسين علي حربة.. تصاميم بارعة تؤكد على التلاقح الحضاري

ليس مستبعدا أن يكون المهندس المعماري ومصمم الحقائب النسائية حسين علي حربة قد سقط من الجنائن المعلقة في بابل وتدحرج إلى دروبها المحفوفة باشجار النخيل الباسقة لأن ذاكرته تختزن عوالم ساحرة تسمو لرفعة الجنائن، وتبدو سعيدة حين تهبط لتهيم في طرقات مدن أوروبا.

هي ذاكرة يجتمع فيها الأصل العريق مع فروع اغتنت بتنوع ثقافته وتعليمه. فهو معماري درس في إيطاليا وهو فنان إختار واحدة من أصعب المهن وفي زاوية من العالم تغص بالمنافسة المهنية. لذلك تنساب في فنه الرؤى وتختلط في تناسق لوني وموسيقى يغني العمق المعماري في تصاميمه البارعة.

وفي مجال فني وثقافي كهذا قد يحق لنا أن نتسائل، هل ظهور فنان بهذا الحجم والتأثير توكيد على مركزية التلاقح الحضاري، وهل يشكّل تكريمه بمنحه جائزة رفيعة إشادة بإسهامات المهاجرين إلى ثقافات أخرى؟

ترعرع حربة، الذي ولد في الحلة عام 1961 في بيئة ترعى الفنون فقد جمع هو وعائلته حوالي 500 عمل فني يمثل تاريخا حيا للفن العراقي الحديث. في كتاب ضخم عن مجموعة حربة صدر عام 2013 عن دار سكيرا المتخصصة في الإصدارات الفنية أعمال بارزة لعراقيين مثل جواد سليم، فائق حسن، حافظ الدروبي، خالد الجادر، أكرم شكري، عطا صبري، جميل حمودي، ضياء العزاوي، مديحة عمر، ميسلون فرج، سعاد العطار، علاء بشير وغيرهم من الذين قدموا ويقدمون للعالم فنا رفيعا يحتفي بالقيم الانسانية. إن كنت تبحث عن مصادر إلهام حربة فلابد أن يكون هذا الخزين الفني المدهش واحدا منها.

يقول حربة في إحدى صفحات الكتاب أن حب الفنون ورعاية ثقافتها من العناصر القادرة على توحيد العراقيين كشعب وكحضارة، مما يوضح إسهامه الكبير في بناء متحف في مدينة ولادته في منطقة غنية بإرثها التاريخي والحضاري، وهي بابل، ليكون أفقا مفتوحا لعرض مجموعته الفنية. هذه بادرة تصدر عن طبع وعقل وتربية ترى العالم أجمع مسرحا للإستمتاع بالفنون بغض النظر عن جنسياتهم وألوانهم وإنتمائاتهم. “هل هناك شخص يريد أن يكون صديقا لمليارات البشر”؟ يتسائل حربة في أول صفحات الكتاب.

“نعم، هو أنا”! وفي إجابته إختصار لسيرة محبة لخلق الله وما إبداعاتها البارزة إلا عطايا لنا جميعا.

أثير موسوي.. يقظة مفاجئة لعوالم ملموسة

تجربة المرور بإحدى لوحات أثير موسوي قد تشبه اليقظة المفاجئة البطيئة في عوالم ما كنا نعلم بوجودها، عوالم ملموسة ثلاثية الابعاد، تتلوى في إتجاهات متداخلة ومتشابكة. تعلو وتهبط، ثم تنهض لتتلاشى مرة أخرى في إنسياب كأنه موسيقى مرئية تدغدغ الحواس بنفس قدرتها على التحريك والإستثارة. تجيء هذه العوالم إلينا ن موسوي يفسح لها المجال، وفي عالم يتحكم فيه غياب اليقين، يميل الفنان إلى بقاء الخيارات مفتوحة لمن ينهض ولمن ينهار.

يمكن أن يتوه المشاهد أمام أعمال كهذه لكن الفنان موسوي هو أيضا الناقد والمعلق الأول على أعماله، فهو يكتب بيانات مطولة بلغة جميلة واضحة تفك الكثير من رموزه وتظهر حرصه على إشراك المشاهدين في عمليته الإبداعية مهما اشتدت متطلباتها. معارضه السابقة جاءت مع كتابات توضيحية يحرص على توفيرها لزواره، وهذا ما تكرر في معرضه الأخير المشكل من 14 لوحة عن موضوع واحد. موسوي يبدع لوحات مدهشة وصعبة ولكن لا يرمي بها في وجوهنا ويمضي.

موضوع هذا المعرض هو “تذويب نصب مُزيّف”، وموسوي يرى هذا النصب كممثل لحياتنا المعاصرة التي تقيم النصب بعد الآخر لمختلف الافكار والمشاعر، فقد يكون نصبا لمفهوم الهوية، أو المادية، أو لمشاعر مثل فقدان اليقين أو النوستالجيا، لكننا نرى من لوحاته كيف تذوب التكوينات التي يخلقها: يختلط الكونكريت بالبلاستك أو بالحديد، والرخام بلعب الاطفال، ثم تمضي كلها ذائبة في ماء لا نعرف إلى أين يمضي. هذه هي نفس المكونات التي تبنى بها النصب وفي انهيارها نهاية الأفكار والأيديولوجيات التي تمثلها.

معظم لوحات موسوي الزيتية كبيرة الحجم (متر في متر ونصف) وهي على قماش الكتان الخام الذي يعامله بطريقة خاصة. قد يبدو بناء لوحاته فنطازيا تعوم فيه كتل كثيرة متشابكة، لكن وراء سحر تكويناته السوريالية وألوانه الخلابة معمار صارم يغني أبعادها الجمالية، ولا غرابة في هذا فوالدته وشقيقه معماريان، بالإضافة لوالده، والبناء المحكم عند موسوي هو نقطة بداية.

فلا عجب إذن أن تدلنا أشكاله وألوانه المثيرة إلىالأبعاد العميقة للوحاته رغم تعقيدها. معنى لوحاته الذي قد يبدو عصيا على الفهم للوهلة الأولى يمكن أن يظهر لجدارة الفنان ولجدية إنشغاله بما يقدم.ولهذا لا تصطدم المعايير الجمالية أو المهنية العالية بمعايير العمل الإنساني والأخلاقي في أعمال موسوي فقد عمل مع الأطفال ذوي المتطلبات الخاصة في مخيمات الفلسطينيين، وارتباطه فنيا وعاطفيا بمعاناة العراقيين جراء الغزو الأميركي والدمار الذي لحق بالبلد منذ التسعينيات. فقد زار العراق عام 2017 وتعرّف على أحواله عن قرب ودون وساطة. هو فنان لا يتردد في التعبير عن آرائه ومواقفه من خلال وسائل التواصل الاجتماعي وفي بياناته الفنية، ولابد أن يعلم أن بعض هذه المواقف والآراء لا يلقى رواجا في الغرب.

شجاعة الفن

والشجاعة هذه نجدها، فنيا وأخلاقيا، بشكل آخر في فنانينا الأربعة، في خلقهم أعمالا جديدة جديرة بالبقاء، وفي تحديهم للصور النمطية عن المرأة العربية، ونجاحهم جميعا في أن يختطو لأنفسهم دروبا فريدة ومتباينة في طبيعتها، ولكن تجمعها العودة إلى أصول وتقاليد عربية يعتزون بها.

يمكن أن نرى في تعزيز صورة الفنانيين العرب خارج العالم العربي أهمية وعمق ما يضيفه هؤلاء إلى إرث بلادهم الجديدة.

حفاوة لندن وتورينو وباريس تجاه أعمال فرج وحربة والعطار وموسوي ليست استثنائية بل تحدث في بقاع أخرى من القارة، ومع مبدعيين من مختلف الأصول العرقية والوطنية والدينية؛ إذ قد يكون الفن هو منقذنا الوحيد كما يقول الفيلسوف الإسباني سانتياغو زابالا لقدرته على تحريرنا من نوستالجيات بليدة تقلل من فرص إستيعابنا للعالم وثقافاته المتعددة.

الأعمال التي يبدعها مثل هؤلاء الفنانون تجعل حياتنا أكثر إثارة وجمالا دون التفريط بقدرتنا على الحكم والاختيار. لعل هذا هو ما يقصده زابالا بالفن كمنقذ وليس فقط نشاطا جماليا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى