انتهيت من قراءة رواية أيام الماعز Goat Days، وكتبت سلسلة مقالات/ دراسات تحليلية نفسية عن الشخصية الرئيسية (نجيب) والمؤلف بنيامين، لأن علم الرواية وما يتعلق بها يدخل في صلب دراستي وتخصصي الأكاديمي. يمكن تصنيف الرواية على أنها سيرة ذاتية لوقائع جزء منها حقيقة والجزء الأكبر خلط فيه المؤلف بين الخيال وما بعد الخيال، وأقصد المبالغة بل وتجاوز ذلك إلى خلق أحداث لا تمت للواقع ولا للخيال بصلة.
ما هو الخيال؟
الخيال (الفكشين Fiction) هو أي عمل إبداعي، وبشكل رئيسي أي عمل روائي، يصور أفرادًا أو أحداثًا أو أماكن خيالية أو بطرق خيالية.
(الكتابة الخيالية، أو رواية القصص، هي تقديم قصة عن أشخاص لم يكونوا موجودين أبدا) ويكيبيديا
(عرّف لويس أراغون الرواية بفن الكذب الحق، جامعا بين ضدّين، الكذب والحقيقة، موحيا بأن الرواية كذب مصوغ بطريقة توهم بأنه حقيقة.
أما الثاني، أي الكذب، فإنه يختلف عن التخييل في هاتين النقطتين، إذ هو لا يعلن عن نفسه بل يخفي طبيعته، ولا يبتغي إظهار الحقيقة أو إدراكها، بل يهدف أساسا إلى تزويرها، وتغطيتها والتعتيم عليها، أو إزالة أثرها تماما.
إن التخييل والكذب شيئان مختلفان: فالأول هو محاولة للاقتراب من الحقيقة، يعلن عن نفسه وجنسه منذ الغلاف بأنه من وحي الخيال، وإن تشبه بالواقع، ينافس العلم في رغبة الإمساك بالحقيقة، وفي الأقل النظر إليها من زوايا أخرى، دون أن يستعمل أدواته، بغرض فتح باب آخر نحو تلك الحقيقة)(1).
أيام الماعز الرواية التي كتبها بنيامين عن نجيب الذي عمل في السعودية راعيا للماعز والإبل حتى وإن كانت بعض أحداثها حقيقية والتي لا تتجاوز 10%، أخفى الكاتب أحداثا أخرى حقيقية. بنى الكاتب على الحقيقة الصغرى تزييفا واختلق كذبا ليخفي ويغطي على الحقائق الثابتة التي لا تقبل جدلا ولا تنظيرا، وأوجد كذبة أكبر.
أراد بنيامين من الكذب والتزييف (شرحت ذلك في سلسة تحليلي للرواية مع إعطاء أمثلة من الرواية نفسها) الإثارة والإساءة اللتان تضمنان لروايته الانتشار والرواج. كان بنيامين يضع الكلمات والعبارات والصور في فم (نجيب) ومخيلته ويكتبها على أن نجيب هو من أملاها عليه، مع أن نجيب نفى بعض الأحداث وقال إنها من فبركة بنيامين. أفهم من وصف (نجيب) “فبركة” أن المؤلف كذب، وتتمثل دوافعه في التضليل أو الخداع.
تقول لاكشمي برايا* في صحيفة ذا نيوز مينيت (Lakshmi Priya / The News Minute. ):
(واحدة من أكبر عوامل الجذب في الرواية هي قيمتها الصادمة، فالمحنة المذهلة التي تعرض لها نجيب تغرس إحساسًا عميقًا بالرهبة لدى القراء المالاياليين، الذين تركوا يتساءلون كيف يمكن أن يكون “واحد منا” قد تعرض لمثل هذه الصدمة المذهلة على أرض يمكن القول إنها ساعدت في تغيير المشهد الطبيعي في ولاية كيرلا إلى الأفضل. ففي نهاية المطاف، يُنسب الفضل إلى الأعداد الكبيرة من الأشخاص الذين هاجروا من ولاية كيرلا إلى الخليج وعادوا بأموال كبيرة على مر السنين، من بين أمور أخرى، كمساهمين مهمين في مؤشرات التنمية المرتفعة في الولاية اليوم).
هذا اعتراف من كاتبة هندية أن الخليج ساهم في تحسين الحياة الاقتصادية والمعيشية في ولاية كيرلا التي ينتمي لها نجيب، وهناك عشرات الآلاف من نفس الولاية والملايين من الهند الذين عملوا وما زالوا يعملون في الخليج وتحسنت أوضاعهم وأوضاع ولاياتهم.
كان هناك حوالي نصف مليون هندي يعملون في السعودية عندما وصل نجيب في بداية التسعينات ميلادي، والآن يقارب عددهم المليونين. السؤال هو: لماذا اختار المؤلف (نجيب) الذي كان واحدا من بين الملايين الذين يعملون في الخليج، ومن بين نصف مليون هندي في السعودية ليروي قصته بطريقة فيها تحريف وكذب وتزييف؟ إن التحريف في الفن بكل أنواعه يمكن أن ينتج عنه مشكلة أكبر عندما يكون على حساب رجل حقيقي.
وُجهت للرواية عدة انتقادات من بينها: “أنها معادية للإسلام (اسلام فوبيا)، حيث يزعم الكثيرون أن القصة تنسج إحساسًا زائفًا بالخطر حول حياة المهاجرين في الدول العربية”. (لاكشمي/ نيوز مينيت)
لا أنفي أن هناك بعض التجاوزات والجهات المسؤولة تتخذ الإجراءات المناسبة وتُـحدِّثُ القوانين بما يضمن للطرفين العامل ورب العمل حقوقهم كاملة. ليس هناك مدينة فاضلة على الأرض والأفلاطونية هي خيال أيضا. تعترف الكاتبة (لاكشمي) بأن تلك التجاوزات ليست فقط في العالم العربي “بل وتم الإبلاغ عنها في دول مثل كوريا الشمالية والصين والهند (نفسها)”.
في تقييمي الموضوعي والمحايد بعيدا عن العاطفة والانفعال أن الراوية لا ترقى إلى المستوى الذي يجعلها تنافس على العالمية (وإن كانت حازت على جوائز لأن من قرأوها لم يعيشوا في الخليج عموما وفي السعودية على وجه الخصوص، ولا أشك أن هناك تحيزا في التقييم)، إضافة إلى ذلك أن الغالبية العظمى شاهدوا الفيلم ولم يقرؤوا، ولعب الكذب والتزييف والتضليل والخداع دورا في ملامسة العواطف وليس العقل، فكانت ردود الأفعال تمثل قطيع الماعز الذي كان يقوم (نجيب) برعيه.
بقلم/ علي عويض الأزوري
1-التخييل والكذب | أبو بكر العيادي | صحيفة العرب (ampproject.org)
* لاكشمي بريا هي محررة فرعية أولى ومراسلة تقيم حاليًا في ولاية كيرا، وبدأت حياتها المهنية كصحفية في حيدر أباد في عام 2018. وهي تكتب بشكل أساسي عن النوع الاجتماعي والسينما والثقافة.