إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

ســيــئول والزندقة

علي عويض الأزوري

طلبني أستاذي وصديقي (غير اللدود) دكتور عبد الرحمن أمين مرغلاني -متعه الله بالصحة والعافية- في مكتبه، حيث كان وقتها عميد كلية التربية فرع جامعة أم القرى بالطائف، كان ذلك في عام 1408/1988، وسألني إن كنت أرغب بجانب عملي الأكاديمي في تولي مهام الإشراف على فرع عمادة شؤون الطلاب بالكلية بسبب حدوث بعض الخلافات في العمادة وتنحية مديرها آنذاك.

كنت أعمل وقتها معيدا في قسم اللغة الإنجليزية، وطلب الدكتور عبد الرحمن مني ذلك لعلمه أنني من أول دفعة في الكلية، بالإضافة إلى كوني طالبا نشطا في مجالات عدة، ومتميزا في الدراسة (وهذا ليس مدحا أو تزكية لنفسي، ولكن كل من عاصرني في تلك الفترة يعلم ذلك تماما) وما زلت نشطا وأنا في منتصف الستين ولكن تميزي الآن في نواح أُخرى. كنت على علم بما يجري في شؤون الطلاب وأعَـرَفُ من الباقين بكواليس العمل فيها. كان طلبا يتمناه البعض ويهرب منه الكثيرون لعظم المسؤولية، ومن يتولى منصبا مثل هذا عليه أن يأتي بأشياء جديدة، وأن يوقظ أو يحيي فرع العمادة من سباتها أو من موتها، وأن يخرج عن المألوف ويفكر خارج الصندوق.

وافقتُ وطلبت من الدكتور عبد الرحمن أن يكون معي في كل شيء أقوم به لعلمي أن ما كنت أفكر في تنفيذه آنذاك سيكون له معارضون لا سيما أننا كنا في (جامعة أم القرى)، وفي زخم ما يسمى بفترة (الصحوة/ لا أحب إطلاق تسميات على مراحل الحياة والتغييرات التي ستحصل لأننا لم نكن قبلها في غفوة حتى تأتينا حركة صحوة).
بدأت العمل ووضعت عدة خطط لم يسبقني إليها أحد ولم يستطع من جاء بعدي أن ينفذ 30% مما قمت به، والسبب أن هناك كثيرون حاولوا تثبيطي و(تكسير مجاديفي) بدءا من الميزانية التي كانت محدودة (10 آلاف ريال مع أن من كانوا قبلي ومن جاؤوا بعدي حصلوا على ميزانيات بمئات الألوف) مرورا بإلصاق صفات بشخصي غير المتواضع، وانتهاءً بالحديث عني في المجالس وأشرطة الكاسيت التي كانت تلقى رواجا آنذاك وانتشار محلات ما يسمى محلات التسجيلات الإسلامية.

لم تكن الفترة تلك التي عملت فيها مشرفا على شؤون الطلاب ذهبية: بل ألماسية وزمرديه وفيروزية، وكل أنواع الأحجار الثمينة التي لا تقدر بثمن، ولن أتكلم عما أحدثته من خروج عن الأعراف في الجامعة من نشاطات عدة (ربما أسردها في خربشة أخرى) لكن ما أود الحديث عنه ما حدث في مقر الطالبات آنذاك.

كانت الكلية من حيث العدد تعتبر أكبر كلية في المملكة حيث كان بها 4000 طالبة وطالب (2400 طالبة و1600 طالب) وخلال اجتماع مختصر لم يتعدَّ عدة دقائق استأذنت فيه رئيسي وأستاذي وصديقي (غير اللدود) الدكتور عبد الرحمن في أن أقيم نشاطا مسرحيا في مقر الطالبات، وأن أنشئ صالة ألعاب مصغرة يكون بها طاولة تنس (بنق بونج) وما نسميه (فرفر) وطاولة بلياردو، وأنشأت ملعب كرة طائرة. حصلت على تأييده وموافقته لذلك النشاط الذي كان خروجا عن كل الأعراف، فلا أذكر أن أي جامعة وقتها كان لديها ذلك النشاط (إذا كان فيه في عام 1408 صححوا معلوماتي).

كلا النشاطين أحدثا جلبة في دهاليز وقاعات الكلية ومكاتبها، لكن المسرح لم يحدث قلقا كثيرا، بل الطاولات وكرة الطائرة هي ما حركت المياه الآسنة، وأذكر أنه عند دخولي للمكتب الساعة السابعة والنصف صباحا في اليوم الذي تلا وضع الطاولات في ناحية من كافتيريا الطالبات كان ممتلئا من الطلاب الذين كانوا يظنون وقتها أن لديهم غيرة على الإسلام وبناته أكثر مني.

كان للمكتب عامل من الجنسية الباكستانية (سلطان) وكنت أقوم بتوفيـر قهوة وشاي وتمر ورطب (من كيسي الخاص) لأن العمادة أصبح بها حركة لم تشهدها من قبل والضيوف من أعضاء هيئة التدريس والطلاب كانوا بالعشرات يوميا. كان سلطان (ربنا يتولاه برحمته حيا وميتا) يقوم بإعداد القهوة والشاي ووضع التمر على الطاولة يوميا قبل حضوري فالمكتب مفتوح طوال أوقات الدوام، والمعاملات على مكتبي فلم يكن لدي ما أخفيه (اشتغل على المكشوف).
دخلت وسلمت وجلست خلف المكتب وجاء سلطان وقام بواجب الضيافة للحاضرين الذين تجاوز عددهم العشرون، وسيماهم في وجوههم حيث كانوا ملتحين جميعهم.

أخرجت علبة السجائر من جيبي وأشعلت سيجارة وأخذت أنفث دخانها في الهواء (وقتها كان التدخين مسموح في المكاتب) وبدأت في ترتيب الأجوبة لأن حدسي أخبرني (بيني وبينه) ما الذي أتى بهؤلاء الإخوة في الله.
أنهيت فنجان الشاي الذي وضعه سلطان أمامي مع السيجارة وبادرتهم بالسؤال:

– هل تحتاجون أوراق تعريف للجوازات أو الخطوط (كانت شؤون الطلاب حينها تعطي تعريف للطلبة من الجنسين للأحوال المدنية لإصدار بطاقة هوية وللخطوط السعودية حيث كانوا يحصلون على حسم 50% للرحلات الداخلية).

رد بعضهم: جئنا لنكلمك في المنكر الذي أحدثته في مقر الطالبات بالأمس.

نظرت لهم في تعجب يعلوه خبث: أي منكر إني أعوذ بالله من المنكرات وإحداثها.

قال أحدهم وأظن كان المتحدث باسم الجماعة وكبيرهم: طاولة التنس والبلياردو والفرفر وكرة الطائرة.

– وهل هذه محرمة من ناحية شرعية؟

كلهم وبصوت واحد: نعم

هل لديكم دليل من القرآن والسنة؟

نظروا إلى بعضهم البعض وحاولوا تلفيق أدلة، لكن لم تسعفهم.

قلت عندي الدليل: يُروى أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرٍ قالت: فسابقته فسبقته على رجلي فلما حملت اللحم سابقته فسبقني فقال: هذه بتلك السبقة. وورد في الأثر: علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل، والولد يطلق على الأنثى والذكر.

هل لديكم أي اعتراض على هذين الدليلين؟

تململوا في الإجابة وحاولوا المراوغة، لكنني (زنقتهم في زاوية) وطلبت منهم الإجابة بـ(نعم أو لا) على صحة أو بطلان حديث عائشة، فلم يستطيعوا إنكاره.

قلت إذا من ناحية دينية وشرعية وهذا دستور بلادنا لا تثريب علي، وأسألكم هل فيما فعلته مخالفة لأنظمة البلد؟
لم يتجرأ أيّ منهم على الرد وأكملت: طالما أن ليس هناك شبهة شرعية فلا يتعارض ذلك مع ما وضعته حكومتنا من أنظمة وضوابط، ومستقبلا سيكون لدينا نوادٍ للفتيات طالما أنها تتبع للتعاليم (قلت ذلك ولم أكن أفكر وقتها أن ذلك سيحدث)، والطالبات يلعبن خلف أسوار عالية، وليس هناك اختلاط وانت تعلمون ذلك.

أختلط حابلهم بنابلهم ثم قال كبيرهم ومتحدتهم: نحن لا نعارض على طاولة التنس والبلياردو والفرفر لكن نعارض على كرة الطائرة.

– وما وجه الاعتراض؟

ربما تقفز بنت عذراء فتفقد عذريتها.
كان تعليلا بيزنطيا سخيفا يحتاج إلى رد أكثر سخافة وبيزنطية.
أنا وضعت لوحة لا يلعب إلا المتزوجات فقط، قلت وأنا اتبسم في خبث.
كانت تعلو وجوههم علامات الغضب وعدم الرضا وأخذوا في الانسحاب واحدًا تلو الآخر.

لما هممت بركوب سيارتي بعد انتهاء عملي الساعة الثانية والنصف وجدت رسالة مطوية في مقبض السيارة، دخلت في سيارتي فإذا هي رسالة من الإخوان أثابهم الله بها تحذير وتنبيه من عذاب القبر والثعبان الأقرع، وما أضحكني أنهم كانوا يسألون: هل ترضى لبناتك أن يشاركن في أولمبياد سيئول (كان في تلك السنة أولمبياد سيئول). هززت رأسي بالإيجاب (كان عندي الشيماء حينها ولم تتجاوز السنتين).

في اليوم التالي اتصلت بي المسؤولة عن شؤون الطالبات وأخبرتني أن بعض الطالبات يقمن بمضايقة الطالبات اللواتي يلعبن بلياردو وتنس وفرفر، سألتها بخبث: هل هن ملتحيات ويحملن مساويك؟ ضحكت بصوت عالٍ وأكملت: اكتبي ورقة وضعيها في الصالة أن من تقوم بذلك ستعاقب.

تم بحمد الله وصمي وإطلاق لقب (زنديق) الذي تشرفت بالحفاظ عليه حتى تم ترقيتي إلى أحد كبار العلمانيين إبان دراستي في بريطانيا.
بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى