تشكيل وتصويرفن و ثقافة

نظرة فاحصة على ‘غريزة الفن’ بين الجمال والتمتع

تتسم روحانية الروائع الفنية التي يجري الحديث عنها في العادة وطبيعتها الأخروية أنها أصيلة وحقيقة، وتنطوي على شعور ـ يتملك الملحد والمؤمن على حد سواء ـ أن الوقوف أمام إحدى التحف الفنية تجعلك تشعر أنك بحضرة قوة تتجاوز كل ما يمكنك تخيله، شيئ أعظم مما يمكن أن تكون أو ستكونه. إن الشعور بالفن يأخذك بعيدا عن نفسك.. قد يعزو المؤمنون كل ذلك إلى قوة الإله بينما يعزوه الداروينيون الإنسانيون إلى القوة الإعجازية للعبقرية البشرية. سيقارب كلاهما هذه الأعمال كمتضرعين: إننا نستسلم لها ونسمح لها أن تأخذنا إلى حيث نريد.

يقدم هذا الكتاب “غريزة الفن.. الجمال، والتمتع، والتطور البشري” لدينيس دتون أستاذ الجماليات وفلسفة الفن في جامعة كانتربري في نيوزلاند، طريقة للنظر إلى الفنون التي تطالعنا يوميا سواء في مجال الكتابة أو النقد؛ طريقة يؤكد أنها أكثر وجاهة وقوة وتوفر إمكانات أفضل من الخطاب المنعزل، الذي يخمد وهج الجزء الأكبر من الدراسات الإنسانية. آن الأوان للنظر إلى الفنون في ضوء نظرية التطور لتشارلز داروين؛ وللحديث عن الغريزة والفن.

يقول دينيس دتون في كتابه الذي ترجمته هناء خليف غني وأحمد إبراهيم وصدر عن دار سطور، إن الروائع الفنية في عصرنا الحالي بعيدة كل البعد من أول محاولة طلي لوجه الإنسان بالدهان الأصفر أو أول نغمات موسيقية تردد صداها في الكهوف القديمة. بيد أن ما بدأه أسلافنا انتشر عبر العالم في الفن العالي والمتدني. ولانزال، على شاكلة أسلافنا، نعجب بالمهارة العالية والخبرة التقنية الفذة. إذ يأسرنا التعبير الشخصي المتأنق مثلما تغمرنا الدهشة لرؤية شيئ جديد ابتدعه فنان. لا تزال عوالم الفن المتخيلة نابضة ومشعة في مسرح العقل، ومشبعة بالعواطف الأكثر عمقا وتأثيرا؛ فهي بؤرة الاهتمام الذاهل والنشوان، إذ إنها تقدم تحديات فكرية يمنح التغلب عليها لذة ما بعدها لذة. وفوق كل ذلك، إن ما نشترك به مع أسلافنا هو شعور بالتقدير والتواصل مع بشر آخرين عبر الواسطة الفنية. ولأننا منشغلون بوسائل الواصل البراقة، وتجارب الحياة اليومية الصاخبة ننسى أننا لا نزال قريبين من نساء ورجال ما قبل التاريخ الذين كانوا أول من وجد الجمال في هذا العالم. إن دماءهم تجري في عروقنا. وغريزة الفن التي نمتلكها تعود لهم.  

ويضيف دتون أن الأعمال الفنية هي الأكثر تعقيدا، وتنوعا، بين الانجازات البشرية، إنها إبداعات الإرادة البشرية الحرة والتنفيذ الواعي. وهي تقتضي خيارا عقلانيا وموهبة حدسية، وأعلى مستويات المهارات المكتسبة اللابدهية. إن كل عضو في مجموعة الأنواع العنكبوت التي تنسج الشبكات ينتج، أساسا، الشبكة نفسها بموجب الشفرة ذاتها، وهذا يعني أنهم يتماثلون في أسلوب نسجهم للشبكة. في المقابل تميل الأعمال الفنية للتعبير الشخصي الذي يمنحها تنوعا مذهلا: فلا يوجد رسمتان انطباعيتان متماثلتان من رسومات مونيه لزنبق الماء الأبيض، ولا نلحظ تكرارا في المآسي الإغريقية، ولا الفواصل الموسيقية التي ألفها براهمس ـ بل، ويغيب التماثل حتى في عرضين أدائيين للمأساة، أو في عزفين للفاصلة الموسيقية ذاتها. فالفنون هي تعبير عن الخصوصية والتفرد. إنها تجمع بين التقاليد والأساليب الفنية، وتجربة الفنان الشخصية، والخيال والمشاعر التي تلتحم جميعا وتتحول في متخيل جمالي.

ويؤكد أن الأعمال الفنية والعروض الأدائية، هي بين الإبداعات البشرية الأكثر توهجا وبهرجة التي تقف بالضد ظاهريا من السلوك العملي؛ فبوسع هذه الأعمال والعروض، في الأنواع الرفيعة من الروائع الأكثر عمقا وقدرة على التأثير، أن تكشف عن روحانية  سامية لا شيئ يضاهيها في التجربة البشرية. وبغض النظر عن الطريقة التي تنظر إليها، فلا صلة للفنون بحقائق الجسد والدماغ العادية التي تعتني نظرية التطور الداروينية تقليديا بتفسيرها!. إن كل ما قلته للتو عن الفنون دقيق، ما عدا الجملة الأخيرة. وغايتي في هذا الكتاب أن أبين السبب الذي يجعل من التفكير بانعدام اللة بين الفنون والتطور خطأ ينبغي تصحيحه. وتأييدا لهذا القول، كتب داروين في خاتمة كتابه العظيم “أصل الأنواع”: “أنا أرى في المستقبل البعيد، حقولا شاسعة مفتوحة أمام باحثين متميزين. إذ سيقام علم النفس على أساس جديد معني بالاكتساب التدريجي للقابليات والقوى الذهنية”. يا لداروين كم كان محقا؛ إذ شهدت الأعوام الأخيرة تطبيقات مثمرة للغاية للأفكار الداروينية في الأنثروبولوجيا، والاقتصاد وعلم النفس الاجتماعي واللسانيات والتاريخ والنظرية القانونية وعلم الاجرام، فضلا عن الدراسة الفلسفية للعقلانية، واللاهوت، ونظرية القيمة.

ويلفت دتون إلى أنه خلف هذا التغيير المذهل الذي أحدثه داروين في الكتابة البحثية والمعرفية، يكمن علم النفس التطوري الذي يفسر الكثير من جوانب الحياة الاجتماعية والجنسية والثقافية التي كانت عجيبة إلى وقت قريب. ومع اتفاقنا على الطبيعة المعقدة للغاية التي تتسم بها الفنون، وأيضا العوالم الثقافية التي تبلورت منها، إلا أنها ليست منفصلة عن التطور. والسؤال الذي يملي نفسه هنا: لِمَ يجب على دراسة الفنون أن تنكمش على نفسها وتبتعد عن منظور أسهم سلفا في إثراء العديد من حقول الاستعلام المعرفي الأخرى؟. إن الفن بكل عظمته، ليست أكثر ابتعادا من السمات المطورة للعقل والشخصية البشريتين من ابتعاد شجرة البلوط عن المياه الجوفية التي تغذيها وتديم أمد بقائها. وليس تطور الإنسان العاقل في المليون عاما الماضية محض سجل تاريخي للآلية التي تمكن بوساطتها من التمتع برؤية لونية حادة، وقدرة على تذوق الحلوى ومشية بانتصاب. إنه بالقدر نفسه، القصة التي تروى لنا كيف أصبحنا أنواعا مهووسة بخلق التجارب الفنية التي نسلي بها ونسعد أنفسنان ونصدمها، وندغدغ بها مشاعرنا، من ألعاب الأطفال وإلى رباعيات بيتهوفن، ومن عصر الكهوف المضاءة بالنار إلى البث العالمي المتواصل لشاشات التلفاز.

ويوضح أن كل الثقافات البشرية تظهر شكلا من التعبيرية، والذي يمكن للتقاليد الأوروبية التعرف إليه كنوع من الفن. ولكن هذا لا يعني أن لجميع المجتمعات كل الأشكال الفنية. طقوس الشاي اليابانية “سادو” هي نوع فني على نطاق واسع برغم عدم وجود أي شبه قريب لها في الغرب. شعب نهر سيبيك بغينيا الجديدة هم شغوفون ـ بل مهووسون ـ بنحت الخشب، ولكنهم يقفون على النقيض من نظرائهم قاطني المرتفعات بغينيا الجديدة، والذين يسخرون طاقتهم لتزيين وزخرفة الجسم، بالإَضافة إلى إنتاج الدروع ولا ينحتون إلا قليلا. بينما لا تمتلك قبيلة الدينكا تقريبا أي فن مرئي، لكنهم يمتلكون شعرا متطورا، جنبا إلى جنب مع افتتان مرهف بالألوان، الأشكال، وأنماط العلامات الطبيعية للماشية التي يعتاشون عليها. إن عالمية الفن والسلوكيات الفنية وظهورهما العفوي في كل مكان من أرجاء المعمورة والتاريخ البشري المسجل، بالإضافة لحقيقة أنه من السهل التعرف إليها باعتبارها فنا عبر الثقافات، تشير إلى أنها مشتقة من مصدر طبيعي وغريزي: نفسية بشرية عالمية. وفي هذا الصدد تكون عالمية الفن هي مشابهة لنزعة بشرية أخرى مستمرة: استخدام اللغة.

ويبين دتون أن الموضوعات الفنية، وسواء كانت قصة روائية، منحوتة يدوية، أو غروضا بصرية وسمعية ـ كمصدر للمتعة الحسية الفورية في حد ذاتها، وليس بالضرورة لفائدتها في إنتاج شيئ آخر مفيد أو ممتع. تستمد هذه السمة أو لذة الجمال أو كما تدعى “المتعة الجمالية” عند التحليل من مصادر مختلفة إلى حد ما. حيث يمكن للون نقي ومشبع بشدة أن يسر الأعين؛ وقد يصبح استيعاب التماسك التفصيلي لقصة محبوكة بدقة مصدرا للسرور، وقد يحدث شكل وأسلوب لوحة لمنظر طبيعي سعادة في نفوسنا، وأيضا شكل الجبال الضبابية والزرقاء التي تصورها؛ بالإضافة إلى أن النغمات المتناسقة والتسارع الإيقاعي المدهش، يؤدي إلى نشوة شديدة بالموسيقى، وهلم جرا. إن الاستمتاع بالجمال الفني هنا غالبا ما يستمد من متع متعددة الطبقات، يمكن تمييزها باختبارها في مناطق شديدة القرب فيما بينها. يمكن أن تكون هذه الخبرات المتعددة الطبقات أكثر فعالية عندما ترتبط بشكل وثيق ببعضها البعض، أو تتفاعل كل واحدة مع الأخرى، كما تقريبا في الأشكال الإنشائية، الألوان، موضوع اللوحات الفنية، أو الموسيقى، الدراما، الغناء، التمثيل الموجه، ومسرحيات الأوبرا. تعرف هذه الفكرة بالوحدة العضوية للأعمال الفنية، “الوحدة في إطار التنوع”. غالبا ما يقال إن مثل هذه المتعة الجمالية هي كغاية في حد ذاتها. تدعى هذه اللذة بالمتعة الجمالية عندما تستمد من الخبرة الفنية، ولكنها مألوفة في العديد من مجالات الحياة الأخرى، مثل متعة الرياضة واللعب، والتلذذ بمشروب مثلج في يوم حار، أو بمشاهدة تحليق وغناء طيور القبر، أو تكاثف غيوم عاصفة. يختبر البشر قائمة طويلة لا متناهية من المتع المباشرة غير الفنية، والخبرات التي يتمتعون بها لذاتها الخاصة. قد يكون لأي من هذه المتع، مثل الارتباط بالجنس أو الأطعمة الحلوة والدسمة أسباب تطورية قديمة لا ندركها في الخبرة المباشرة.

ويرى إن العاطفة الإيروسية مشبعة بأحاسيس جياشة، ومشاعر عميقة دفينة وخيال وتوافق ومخاطر وصراع، وأيضا التجريب في جميع أنواع الحميمية والتغريب البشريين. إن الصلات بين الإيروسية والتكاثر واضحة. أما العوالم الجمالية للجمال الفني الطبيعي، فلا ترتبط ارتباطا واضحا بالتكاثر. مع ذلك يخلق الفن متعة وإثارة رفيعيتين، وينمي فهمنا للممكن إنسانيا. إذ ينشأ الجمال، على غرار الإيروسي، عفويا بوصفه مصدرا للمتعة في الثقافات عبر العالم، وهذا يعني ضرورة اهتمام الدارويني الفضولي به. وبالنظر إلى العالمية الواضحة لمتع الفنون، يجب أن تكون سهولة تفسير هذه المتع بقدر سهولة تفسير متع الجنس والطعام؛ وإن تعذر تفسيرها بأسلوب ميسر يؤلف مشكلة رئيسة للراغبين في تعزيز أهمية التطور للتجربة البشرية بجوانبها كافة.

ويعتقد دتون أنه لا ينبغي تجاهل الفنون بوصفها ناتجا عرضيا للتصادم بين البيولوجيا البشرية والثقافة. إن الفنون تكثف التجربة وتعززها، وتطورها زمنيا، وتجعلها أكثر تلاحما وانسجاما. حتى لو حلت الفنون محل التجربة، فإنها لا تقفز إلى لحظة اللذة عند الكائن العضوي البشري، ولا تقدم بوصفه بديلا عن كل شيئ آخر. يتخيل المخرج والكاتب وودي ألن في فيلم “النائم” الذي أخرجه عام 1973، الناس وهم نائمون في أسطوانة بحجم كشك التلفون تسمى ذروة التهيج حيث يجربون آنيا الشعور باللذة كما في العلاقة الجنسية من دون الاضطرار إلى المرور بمرحلة المداعبة والملاطفة المزعجة والمستهلكة للوقت.

ويلمح إلى أن قيمة البقاء التي توفرها القابليات الخيالية واللغوية لا تشكل إلا جزءا من التطور. داروين نفسه أدرك أن العديد من السمات المذهلة الواضحة في الحيوانات هي نتاج للانتقاء الجنسي، في هذه العملية التطورية المنفصلة، هو قدرة الحيوان على إثارة اهتمام الجنس الآخر من أجل التكاثر. وفي حين يمكن للانتقاء الطبيعي أن يزود أحد أنواع الطيور بريش مائل إلى البني ينفعه في التخفي في عشه، يسهم الانتقاء الجنسي في إنتاج الريش زاهي الألوان الذي قد يستغله الطائر للتأثير في الشريك. يفسر الانتقاء الجنسي في حالة البشر، بعضا من أكثر الجوانب حيوية وصخبا في الشخصية البشرية، بما فيها خصائص التعبير الفني الأكثر بهجة وتبجحا.

ويلفت دتون إلى الخلافات التقليدية الثلاثة في الفن والنظرية الجمالية ابتغاء معرفة الشكل الذي تبدو عليه في ضوء التطور وهي: هل ينبغي لمقاصد الفنانين أن تكون حجر الأساس في تفسير أعمال الفن (المغالطة القصدية) ـ التحدي الجمالي الذي يشكله تزييف فني متقن ـ المكانة الفنية لحركة دادا ومنتجاتها الجدلية المتعمدة، مثل لوحة “النافورة” أو المبولة الشهيرة لمارسيل دوشامب. هذه المسائل الثلاثة تشغل موقعا دائما في السجالات المتصلة بالنظرية الفنية لتضمنها صراعات بين عوامل يطغى عليها التناقض في تجربتنا الجمالية: الدليل على ذلك هو التأمل الموضوعي في مقابل العناية الغريزية بشخصية الفنان والإعجاب بموهبته. هذه الصراعات تبين أن غريزة الفن في ذاتها ليست باعثا مدفوعا جينيا منفردا مماثلا لحب الطعم الحلو، بل هي مجموعة معقدة من الدوافع  أو الغرائز الثانوية، التي تتضمن الاستجابات للبيئة الطبيعية ولمخاطر الحياة وفرصها المحتملة، وجاذبية الألوان والأصوات المجردة، والمكانة الاجتماعية والرغبات الإيروسية وحتى الغلاء والكلفة. وليس هناك سبب يدفعنا إلى الأمل أن هذه السلسلة العشوائية من الدوافع والمتع والقابليات يمكن أن تشكل نظاما عقلانيا بدائيا.

ويتابع أن التقاليد الثقافية ليست وحدها من تضع حدودا على ما هو ممكن في الشكل الفني، فهناك أيضا القابليات المطورة. الشم مثلا لم يصبح الأساس لتقليد فني مطور تماما على الرغم من تمثيله قيمة بقائية جوهرية في عصر ما قبل التاريخ لكونه أحد مصادر المتعة الجمالية العميقة، وعلى خلاف الشم تؤلف الأصوات عندما تجتمع وتقدم إيقاعيا مادة لواحدة من أهم الأشكال الفنية على الإطلاق. وهذا برغم حقيقة أن الحساسية للأصوات لم تكن تنطوي على قيمة بقائية محددة في ماضينا التطوري، وإلى جانب التناقضات الظاهرية فإن هذه المقارنة بين الشم والموسيقى تكشف عن الطبيعة الاحتمالية لاستجاباتنا الجمالية المطورة: فغريزة الفن لم تتطور في عصر ما قبل التاريخ، وتزدهر في الثقافات والتكنولوجيات المتنوعة بوصفها نظاما نظريا متكاملا ومتجانسا ومع ذلك توفر أعمال الفن بوصفها موضوعات شعورية بعضا من التجارب المتاحة للبشر الأكثر عمقا وتأثيرا من الناحية العاطفية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى