معركة إفراغة من أهم معارك دولة المرابطين
معركة إفراغة هي معركة وقعت في 17 يوليو 1134 م/23 رمضان 528 هـ تحت أسوار إفراغة في الثغر الأعلى، بين قوات مملكة أراغون بقيادة الملك ألفونسو الأول والجيوش المرابطة التي أتت لنجدة بلدة إفراغة المحاصرة من قبل الملك ألفونسو الأول، وأسفرت عن انتصار المرابطين، ووفاة ألفونسو الأول حسرةً بعد المعركة بوقت قصير.
الفونسو المحارب ملك أرغون والروح الصليبية
بعد وفاة الفونسو السادس ملك قشتالة الإسبانية، الذي تصدَّر قيادة حرب الاسترداد على شبه الجزيرة الإيبيريَّة، التي تهدف لإعادة حكم الإسبان، تولَّى الراية بعده الفونسو المحارب ملك أرغون، وكان لظهور شخصية (ألفونسو المحارب) ملك أرغون الإسبانيَّة أثرٌ كبيرٌ في تغيير مجرى الأحداث في الأندلس؛ إذ كان شديد الاهتمام بمحاربة المسلمين واستعادة البلاد منهم، حتى إنَّه لم يكن يمكث في قصره أبدًا؛ إنَّما هو في قتالٍ مستمرٍّ يدفعه في ذلك عاطفةٌ دينيَّةٌ جيَّاشةٌ، واضطرامٌ صليبيٌّ لا نظير له. كان ميزان القوى في الأندلس قد تغيَّر بدخول المرابطين القادمين من المغرب كطرفٍ في المعادلة، وقد أنهى المرابطون حكم دويلات ملوك الطوائف وأخضعوا الأندلس لنفوذهم، وعطَّلوا التمدُّد الإسباني.
اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية
سقوط سرقسطة
كان موقع سرقسطة موقعًا خطرًا حسَّاسًا؛ فقد كانت تلك المملكة المسلمة تقع بين الممالك النصرانية؛ بين إمارة برشلونة من الشرق، ومملكتي أراجون ونافار (نبرة) من الشمال، ومملكة قشتالة من الغرب؛ لذا كان النصارى يتحيَّنون أيَّ فرصةٍ لضعف سلطان المرابطين للاستيلاء عليها، ومد نفوذهم على قواعدها الهامَّة. وفي عهد أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين استغل النصارى فرصة خلوِّ سرقسطة من والٍ يُدير شئونها بعد وفاة أميرها (أبي بكر بن إبراهيم بن تافلوت)، وانشغال أمير المرابطين “علي بن يوسف” بخوض عدَّة معارك بالبرتغال.
وكان علي بن يوسف قد عيَّن في النهاية (عبد الله بن مزدلي) والي غرناطة؛ ليكون واليًا لبلنسية وسرقسطة، وذلك في أواخر سنة 511هـ أواخر 1117م. ويبدو أنَّ الحاكم الجديد لم يستطع الصمود طويلًا أمام أطماع الممالك النصرانية؛ إذ سرعان ما فرض النصارى حصارًا على سرقسطة، بدأ في شهر صفر سنة 512هـ= شهر مايو سنة 1118م، ولم يكن الجيش المحاصر مكوَّنًا فقط من الأرجونيين، أعداء سرقسطة الأصليين؛ بل كان يضم طوائف عديدة أخرى من النصارى من ألمان وفرنسيين وهولنديين وإنجليز، والواقع أنَّنا نجد أنفسنا في هذا الموطن أمام حملةٍ صليبيَّةٍ حقيقية؛ حيث كان عدد الجيش المحاصر لسرقسطة خمسين ألف فارس.
وقد سارع علي بن يوسف بالكتابة إلى أمراء الأندلس بالمسير إلى أخيه تميم، وكان واليًا على شرق الأندلس؛ ليسيروا معه؛ لاستنقاذ سرقسطة ولاردة، على وجه السرعة، وسار تميم إلى سرقسطة وخاض عدة معارك مع جيش النصارى هناك، حيث اشتبك عند لاردة في موقعة شديدة مع ألفونسو المحارب، وأنزل به هزيمة ساحقة، ولكنه بعد ذلك أدرك استحالة الحفاظ على سرقسطة وصعوبة استردادها في ظلِّ إحاطة جميع الممالك النصرانيَّة بها؛ ممَّا اضطر تميمًا أن يعود على إثر ذلك إلى مقر ولايته بلنسية، ويترك أهل سرقسطة لمصيرهم المحتوم.
وقد وقع خلال الحصار الذي استمرَّ سبعة أشهر كاملة معارك شديدة بين المسلمين والنصارى، اشترك فيها عبد الله بن مزدلي، آخر ولاة سرقسطة المسلمين، بقواته في هذه المعارك وأبلى فيها، وفي خلال ذلك الحصار اعتلَّ الأمير “عبد الله بن مزدلي”، فتُوفِّي في رجب، فكُتم خبر وفاته أيامًا؛ حتى لا يعلم به ملوك النصارى، ثم أُذيع فكان له أثرٌ سيِّئٌ على جميع من بالمدينة، ومع نفاد الأقوات وشدة الحصار، سلمت المدينة بمعاهدة في يوم الأربعاء الثالث من شهر رمضان من عام 512هـ=18 ديسمبر سنة 1118م على الأرجح، وكان ذلك من أكبر الضربات التي حقَّقها ألفونسو المحارب بدولة الإسلام بالأندلس.
كان سقوط سرقسطة أول ضربةٍ موجعةٍ حقيقيَّةٍ نالت دولة المرابطين وضعضعت هيبتهم العسكريَّة وهزَّت أركانها، وجرَّّأة ملوك النصارى على التهام إماراتهم في الأندلس.
معركة إفراغة
واتجه ألفونسو بعد ذلك إلى الاستيلاء على مدينتي إفراغة ولاردة، وبدأ الزحف على إفراغة، وهي تقع على الضفة اليمنى لنهر سنكا على مسافةٍ قريبةٍ من شمال مكناسة، وكانت مدينة إفراغة شديدة التحصين وتقع على ربوة عالية في نهاية منحدر وعر ضيق، وهرع “الزبير بن عمرو اللمتوني” من قرطبة إلى الثغر الأعلى، في ألفي فارس، ومعه مقادير وفيرة من المؤن، واشترك معه الأمير أبو زكريا يحيى بن غانية والي بلنسية ومرسية، في قوة تقدرها الرواية بخمسمائة فارس، وكان من أعظم وأشجع القادة المرابطين، وكذلك حشد “عبدالله بن عِياض” والي لاردة قواته للدفاع عن إفراغة.
وفي تلك الأثناء كان ألفونسو قد وصل بقواته إلى إفراغة، وضرب حولها الحصار، فقاومته حاميتها وأهلها بقيادة واليها “سعد بن محمد بن مردنيش” أشد مقاومة، واضطر أن يرفع الحصار غير مرة، ثم يعود إليه، وحملته هذه المقاومة ذاتها على مضاعفة جهوده في التضييق على المدينة المحصورة، والتصميم على أخذها، وأقسم ألفونسو تحت أسوار إفراغة أن يفتتح إفراغة أو يموت دونها، وأقسم معه عشرون من قادته كذلك، وأمر ألفونسو كذلك أن يؤتى برفات القديسين إلى المعسكر؛ إذكاء لحماسة الجند، وأن يتولى الأساقفة والرهبان قيادة الصفوف.
كانت الجيوش المرابطية منقسمة إلى عدَّة سرايا نظرًا إلى أنَّها قدمت من عدة أماكن متفرقة من الأندلس، فوصلت إحدى السرايا مبكرًا عن باقي الجيوش، وأسرعت هذه السرية فاشتبكت مع الصليبيين، فهزمت بسبب الفارق الكبير بين الفريقين، وعندها دب اليأس والوهن في قلوب أهل المدينة وعرضوا التسليم نظير الأمن على النفس والمال والولد، فرفض ألفونسو المحارب هذا العرض وأصر على اقتحام المدينة بالقوة وقتل جميع أهلها وفاءً بيمينه.
في هذه الأثناء وصلت باقي الجيوش المرابطية بقيادة (يحيى بن غانية) الذي وضع خطة ذكية؛ لاستدراج الصليبيين خارج أسوار المدينة بواسطة قافلة من المؤن، وبالفعل نجحت الخدعة الحربية، وتحرك الصليبيون عن أسوار المدينة، وعندها انقض المرابطون على الصليبيين، وعلى الرغم من التفاوت الكبير بين الجيشين -إذ كان الصليبيون أضعاف المسلمين- فإنَّ المعركة كانت من أشد وأعنف ما عرفه تاريخ القتال بين المسلمين والنصارى في شمال الأندلس.
ثم حدث تغيُّرٌ كبيرٌ في القتال عندما خرج أهل إفراغة من أبواب المدينة التي ترك الصليبيون محاصرتها، وانقضوا على مؤخرة الجيش الصليبي الذي وقع بين فكي كماشةٍ فتاكة، وتمزَّق الجيش الصليبي ووقعت عليه الهزيمة المروعة في 23 رمضان سنة 528هـ.
لقد كان وقع الهزيمة الساحقة على ألفونسو المحارب بالغ الأثر؛ فلقد انسحب من القتال بصحبة فارسين فقط، ومن شدَّة خجله لجأ إلى دير (خوان دي لابتيا) في سرقسطة، وبه تُوفِّي همًّا وغمًّا بعد ثمانية أيام من المعركة، وبالتالي اختفت شخصية في غاية الخطورة من ميدان الصراع بين المسلمين والإسبان، وكان ألفونسو هذا من المقاتلين الأشداء الذين لا يعرفون في حياتهم إلَّا قتال المسلمين، فلم يتمتَّع من متع الدنيا بشيء، وقضى حياته كلها في قتال المسلمين من أجل إعادة الأندلس نصرانيَّةً مرَّةً أخرى، فكان جزاؤه من جنس عمله، ولم ينل في نهاية عمره سوى الموت كمدًا وغمًّا من هول الهزيمة.