(إن صلاحية الأسلوب السردي لا ينبغي أن تقاس بمدى صدق أو كذب الراوي، بل إن الشكل السردي يكتسب قيمته من التماسك الداخلي لما يُروى، أي من خلال الكيفية التي يُروى بها. وهنا يأتي دور قدرة المحاور على طرح الأسئلة، وهو يستكشف الحقيقة أو الكذب. فالأمر لا يتعلق بالنظر إلى الحقيقة، بل بالنظر إلى مدى مصداقية ما يُروى، مما يجعله قابلاً للتصديق، أي إعطاء مظهر الحقيقة كما يروى.)(1)
– سأستبدل كلمة (المحاور) إلى (القارئ الضمني Implied Reader) الذي هو شريك في الرواية وفقا لنظرية التلّقي reception theory (2) التي ظهرت في الستينات من القرن الماضي وكان روادها ياوس وأيزر وأنجاردين (Iser and IngardenـJauss)، لتُرسخ مفهوم القارئ الواعي والفاعل المشارك في بناء العمل الأدبي. يرى ياوس أنه “لا يوجد عمل بدون تأثير، وهو ما يفترض مسبقًا وجود متلقٍّ، وأحكام المتلقي هي التي توضح أعمال المؤلف.”(3)
(القراءة تعتبر وعيًا جديدًا بالنص/ الرواية، مُحاولة منبعثة من الداخل القرائي لتحديد المفاصل الحدثية الأصيلة بمعالم قرائية مستجدة، فيتفق القارئ مع الروائي في رفض هذا الأخير «كل تخطيط مسبق» لأحداث الرواية، كما يقول حميد لحميداني، فطريقة القراءة ليست مخططا لها، وكل نص يفرض طريقة قراءته)(4).
Both professors (Hans Robert Jauss) and (Wolfgang Iser), the founders of the reception theory and the establishers of its procedural concepts, tried to restore consideration to the reader who was marginalized and neglected for a long of time in literary studies, and they affirmed that ensuring the continuity and immortality of literary works depends on their receiving by the recipient, and not any recipient, but the one who receives the text and reads it again in light of new information, through the act of reading, accordingly, Iser argues that the production of the meaning of the literary work depends on the reader, so the meaning of the text results from the interaction between the structures of the text and the understanding and interpretation of the reader
حاول كلا الأستاذين (هانز روبرت ياوس) و(فولفغانغأإيسر)، مؤسسي نظرية التلقي ومؤسسي مفاهيمها الإجرائية، إعادة الاعتبار للقارئ الذي تم تهميشه وإهماله لفترة طويلة في الدراسات الأدبية، وأكدا أن ضمان استمرارية الأعمال الأدبية وخلودها يعتمد على تلقيها من قبل المتلقي، وليس أي متلقي، ولكن الشخص الذي يتلقى النص ويقرؤه مرة أخرى في ضوء المعلومات الجديدة، من خلال فعل القراءة، وفقًا لذلك، يجادل (أيسر) بأن إنتاج معنى العمل الأدبي يعتمد على القارئ، وبالتالي فإن معنى النص ينتج عن التفاعل بين هياكل النص وفهم القارئ وتفسيره.(5)
– صدرت رواية أيام الماعز Goat Days في عام 2008 باللغة المليبارية أو اللغة الماليالامية للكاتب (بنيامين)، وترجمها إلى الإنجليزية جوزيف كويبالي، والذي من لغة وتراكيب الجمل والعبارات في الرواية يتبين أنه من المدرسة الإنجليزية البريطانية وليس الأمريكية. لم تكن الرواية موجهة للقارئ العربي (هذا إن وجد من العرب من يقرأ في زمن التك توك والسناب) بل للقارئ المليباري خصوصًا والهندي عمومًا، والترجمة للقارئ في العالم الآخر (الغربي).
– تزايدت ردود الأفعال الغاضبة وغير الموضوعية عند عرض الفيلم حياة الماعز Goat Life من بعض العرب عمومًا، وبعض السعوديين على وجه التحديد (المخرج استبدل أيام بكلمة حياة ليضيف للفيلم بعدًا آخر في المعنى). شاهدت أجزاءً من الفيلم لكني قرأت الرواية كاملة باللغة الإنجليزية وكتبت عنها سلسة مقالات/ دراسات تحليلية نفسية وفلسفية بناءً على ما ورد فيها من أحداث.
– أستطيع أن أقول إن الرواية/ الفيلم تعرضت لعدة عمليات من التجميل وربما حقن البوتكس. يعترف الكاتب بنيامين أن:
The writer recently stated that only 30% of the book is based on reality.
صرح الكاتب مؤخرًا أن 30٪ فقط من الكتاب يعتمد على الواقع)(6).
هناك مشهد في الرواية تم تصويره في الفيلم لكن حُذف من الرقابة، يقول نجيب عن ذلك المشهد في إحدى المقابلات الترويجية للفيلم:
That scene is something the novelist added on his own, as per his creative vision,” he repeatedly asserted, once even on the verge of walking out of the interview. He also negates a few of the accounts described in the book.
ذلك المشهد هو شيء أضافه الروائي من تلقاء نفسه، وفقًا لرؤيته الإبداعية”، أكد مرارًا وتكرارًا (نجيب)، حتى أنه كان على وشك الخروج من المقابلة. كما أنه ينفي بعض الروايات الموصوفة في الكتاب.
Benyamin’s critics and supporters have since debated the ethics and boundaries of artistic freedom and the fictionalisation of real-life experiences, pointing out that misrepresentation in art can become a bigger problem when it is at the cost of a real man, in this case, someone who hailed from a marginalised community with little privilege
ناقش نقاد بنيامين ومؤيدوه أخلاقيات وحدود الحرية الفنية وإضفاء الطابع الخيالي على تجارب الحياة الواقعية، مشيرين إلى أن التحريف في الفن يمكن أن يصبح مشكلة أكبر عندما يكون ذلك على حساب رجل حقيقي، في هذه الحالة، شخص ينحدر من مجتمع مهمش مع القليل من الامتيازات(7).
– تجرد الكاتب بنيامين من الأخلاق والمصداقية، ومارس هوايته في الكذب وخلق أحداث لم يكن لها وجود؛ اعترف بذلك على (لينكد إن) حيث كتب: “إنها روايتي.. هذا مذكور بوضوح على غلافها، أتحمل المسؤولية الكاملة عن كل فعل ينسب إلى نجيب في القصة، مع وجود تفسيرات متاحة بسهولة”.
هنا مع سبق الإصرار والترصد يقول إن لديه تفسير جاهز لأفعال (نجيب) التي نسبها إليه، مما يؤكد ما كتبته (في أحد المقالات) عن وضع كلمات وصور لم يتفوه (نجيب) بها أو يفكر فيها.
يتبين لي أن هناك تناقض بين الراوي (نجيب) والكاتب والمخرج بناءً على ما سبق من تصريحات المؤلف والمخرج والراوي.
– أما الفيلم الذي قام المخرج (بليسي) بتغيير كلمة أيام إلى حياة فإنه يمثل رؤيته. كتب (بليسي) على منصة X:
I am the director of the movie, and the script of the movie is written by myself and the movie is produced by my own company ‘Visual Romance’ in which I am the sole owner and shareholder;
أنا مخرج الفيلم، وسيناريو الفيلم من تأليفي، والفيلم من إنتاج شركتي الخاصة “Visual Romance” التي أنا المالك الوحيد والمساهم فيها.
تقول Trine Dyrholm تراين ديرهولم وهي ممثلة ومغنية دنماركية:
We cheat when we act or shoot films
نحن نغش عندما نمثل أو عند تصوير الأفلام
وتقول جولي هانسن وهي ممثلة تلفزيونية:
“الغش أمام الكاميرا” هو أمر شائع يُعطى للممثلين في تصوير الأفلام أو مقاطع الفيديو، ويعني ببساطة تعديل سلوكهم بما يعود بالنفع على جمهورهم. وذلك لأن الكاميرا تمثل ما سيرى الجمهور على شاشاتهم. وبما أن الكاميرا يمكنها تكبير الأشياء أو تفويتها أو تشويهها، فإن المنظر على الشاشة يختلف كثيرًا عما قد يشاهده الجمهور شخصيًّا. يغش الممثلون وغيرهم من المحترفين أمام الكاميرا طوال الوقت من أجل مصلحة الجمهور.”(8)
– استطاع المؤلف بنيامين تهميش وإلغاء القارئ الضمني (السعودي) الذي يعتبر جهاز كشف الكذب لطريقة سرد الرواية، وتبيان تزييف المؤلف لكثير من الأحداث التي صنعها من خياله (المريض)، إضافة إلى الغش الذي تُبنى عليه الأفلام أيا كان نوعها وتوجهها. يبقى هناك شيء لا يمكن إغفاله بسبب أهميته: نية الراوي والكاتب، ومعها المبالغات أو الاغفالات المحتملة.. ففي الحدث الذي يتم تذكره وسرده، يظهر خيال الذاكرة، الذي يشوبه المبالغات النموذجية لأولئك الذين يريدون توضيح أو إعادة إنشاء ما يتم سرده، بقصدٍ يعود إلى نوايا الكاتب. إن قدرة القارئ الضمني على كشف الخلل والمبالغة والإغفال والتزييف والكذب في البحث السردي هي حقيقة تسهل البحث عن المعنى. إنها طريقة للتعامل مع إمكانية اختراق نية أو إرادة الراوي والكاتب، وهي تشجع البحث، مع توسع المعرفة.
بقلم/ علي عويض الأزوري
1-Lies in narrative research. For a possible Decalogue
2- Journal of Arabic Language and Literature (JALSL) • Vol 2, Issue 2 (2023)
3- أبو العلا عصام الدين، (2007)، آليات التلقي في دراما توفيق الحكيم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ص21
4- القارىء في الرواية: عبدالحفيظ بن جلولي: القدس العربي، 24 نوفمبر 2020
5- فعل القراءة وآلية إنتاج المعنى عند فولفغانغ أيزر/بارة خولة
6- https://www.filmcompanion.in/author/sowmya-rajendran
7- The NewsMinute ( Indian NewsPaper)
8- Julie Hansen LinkedIn Top Voice, Virtual Executive Presence Training & Assessments for Sales & Leadership | Presentation and Demo Skills | Award-Winning #Sales Author | Professional Screen Actor