تشكيل وتصويرفن و ثقافة

مشهد ميسون علم الدين لغة تقص تاريخ المكان وجماله

قبل عقد من الزمن قلت إن مستقبل مشروع السورية ميسون علم الدين مبني على اكتشاف الذات، وأن هذا يتطلب منها أن تكون في حالة بحث متواصل ودائم. لذلك كانت أمينة رغم الخراب الذي يلاحق الحياة قد أرست لنفسها مستوى من الخطاب الجمالي كظاهرة تخصها هي فقط وتمارس فيها مجموعة متشابكة من التداعيات.

كان لا بد لميسون علم الدين أن تكون حاضرة ومثابرة على الدوام لتصل بالشكل الذي تريده، فالبناء بناؤها، وإمكانيات التجديد والتغيير فيه تخصها هي وحدها، ويشهد على دعمها له كل مخزونها من الأفكار والقيم، وتذهب إلى أبعد الحدود في توظيف مفاهيمها، إن كان بعدم الانفصام الملحوظ بين الواقع وظله، أو بين المسميات القيمية بألوانها المختلفة. فهي تجد تفسيرا لذلك، لا كعزاء لمشكلة اللحاق بحياة لا قلب لها بل لما تتركه تلك الحياة خلفها من خيبات واسعة وآمال مكسورة.

تلامس الفنانة منظومة المعايير والعلاقات في معظم حركاتها التي تتمثل بلجوئها إلى التفاعل مع أسبابها الداخلية بالأساس، فتراجع نفوذ الفرح لا يجعلها تنشغل به كقضية، بل هي تركز بشكل متزايد على الألوان المختلفة، في ظل غياب التنمية الثقافية، وترتبط بعلاقة عكسية مع النتائج التي قد تظهر لها كنقيض لوعي جمعي يمضي نحو انهياراته.

ميسون علم الدين التي تمتد بجذورها إلى الجبل الجنوبي الأشم بالسويداء، والتي مازالت تعيش وتتنفس بين جوانحه، تحرص على الاحتفاظ بمنطقها ومنطلقها، فهي تحمل مشروعا فنيا وجماليا يتسم بالتغلغل في فهمها وبالسعي للسيطرة على قراراتها، فهي منخرطة في برنامج غير محدد تعمل جاهدة على ضرورة تجاوزه، إذ لا يكفي أن يكون الوضع مهيأ للتغيير بل لا بد من توفر أدوات بها تسند هذا التغيير دون أن يكون هناك ما يفقدها نشوة إنجازاتها.

هي مدركة لمؤشراتها الأولية التي ستظهر نجاحاتها، كما أنها مدركة لمسارها الذي اتخذته فيما بعد كاتجاه مختلف تبرز حضورها فيه، وهي تستحوذ على أدواتها التي ستشتغل بها وعليها، فهي تنتمي إلى المسار الذي يشي بالانفجار في كل حين، وكما هو معروف فهذا ليس اختيارا بل دعوة إلى المضي نحو ما يمكن تحقيقه، لا على شكل ما هو سائد بل على شكل مغاير يحمل كل رسائله في ذاته.

وفي السياق المعمق لالتقاط حيثيات المشهد تنجح في تصويره وتبدع فيه بحكم ما تحمله من طموحات باتت مطلة على حالة إشعال الشموع، وبحكم تلك التداعيات الحسية التي منها ستنطلق لتفرض نشيدها الذي طالما غردته وهي تقترب من الخيال في هذا الزمن، زمن الحرب والقمع، في الزمن المغبر حتى من تلابيب روحه، فهي تنسج نصها البصري الذي لا ينتمي في الوصف إلا إلى شيء، إلى عالم الإحساس بضرورة أن يختلط فيه الواقع بالخيال.

ففي الوقت الذي تبحث فيه علم الدين عن ثيمة تكون مفتاح وصولها، تكون الإنسانية حالات من النوازع اعترتها صور وحالات، تقوم ميسون بتعريتها وتجريدها مما عليها من أقنعة زائفة بلغة مكشوفة يتقبلها القارئ وكأنها تقص عليه تاريخ المكان وجماله من جهة، أو كأنها تسرد سيرته الذاتية التي هي سيرة الطبيعة أولا وأخيرا بغية هتك أسرارها.

ميسون علم الدين فنانة تشكيلية، تتوطد اللحظات لحظة بعد أخرى بين أصابعها، تلك الأصابع التي تمدها نحو الفضاء وكأنها تبحث عن فراشات تلعب وحيدة، فتظهر وتغيب لتصافحها قبل أن تتوه فيها الطريق، ووفقا لهذا التصور هي تمتلك الخبرة المتخصصة في تقييم أدائها، وذلك بوضع منهجية للمستوى الذي تشتغل عليه، فتوضح المفاهيم وطرق مؤشراتها الرئيسية، مكرسة كل طاقاتها للمستوى الكلي للتأكد من دقة بياناتها وحداثتها، وذلك للتعرف على مدى أهدافها وأولياتها، فأسلوب عملها ومستويات التنسيق فيما بين مفرداتها والتخطيط السليم والمرن مع توفير المستلزمات الضرورية تمهد الطريق لمتابعة تنفيذ سليمة.

فنانة تدرك أن للعمل الفني تاريخه وسجاله ومداه، وأنه من الطبيعي أن يقاد توجهه إلى إحياء أسئلة جديدة

والفنانة لا تتجنب المخاطر الناشئة عن التقلبات المحتملة، فهي تعيش حالة اليقين لأسباب ليست خارجة عن العوامل المتعلقة بإسهاماتها المنتجة، وإن كان على المدى البعيد. تعمل على صناعة الاحتمالات التي من الممكن أن تتسلح بها وهي تواجه أعمالها، فهي يقظة في تشكيل منظومة متكاملة تأخذ منها المؤثرات التي تجعل ألوانها لا تهدأ، ففيها من الحركة ما يدفعها إلى القيام بتنظيمها، ليبدأ المشهد منزويا خلف شفاه الأسئلة وهو يترقب في لهفة بوابات الروح وهي تفتح أنهارها لتسافر في الحكايات تاركة النعمة الكبرى فيها، من غناء وأشجار وضوء، ومن الشهقة وهي تبعث من جديد.

مرة أخرى نكون في حضرة أعمال ميسون علم الدين وهي تحتمي بالطبيعة وأساطيرها وما تحمله من جمال ودواء، وهي لا تخذل ريشة ميسون ولا تخونها بل تهيئ لها الأرضية التي على أديمها ستفرش ألوانها وستحملها لتنقلها من المعلوم والواقعي إلى الخيالي، فالخيالي حين يحضر ويتوسط حدث الانتقال ذاك يصبح دالا على أنه يضعنا على عتبات النماء والوفرة والخصب، وميسون على وعي بالوسائل التي تستخدمها والتي ستفي حاجاتها وحاجات المتلقي، وعلى نحو أخص في فهم مقاصدها ودلالاتها التي تتعاضد مع رغباتها في جعل نصها مشهدا يفتح مجراه على اتجهات كبيرة ستكون في البداية نوعا من الترحال في النص ذاته والإصغاء إليه وتلقف خطابه، ثم يمتثل للفتوحات وأسفارها حتى يرتاد آفاقا لم تفكر فيها الرسامة بل وجدت ذاتها تقتحمها وهي في أشد اللحظات أصالة وإبداعا.

وميسون لا تكتفي باستدعاء الطبيعة أو رسمها بل تضعنا في حضرة ما تخفى في أصقاعها من صراع وجدل، من جمال وذهول، تلتقط الظواهر والأحداث حتى تمكننا من المثول في تلك الأقاصي التي يبدو فيها كل شيء على حقيقته باعتبارها جزءا من حركة لا تكل، فنصها حالما يبلغ هذه الرحاب تصبح جزءا منه ومن تلك الحركة، والنتيجة فيها من إغناء للروح ما يجعلها تمتثل وتهتدي بمقرراتها.

ولا بد من الإشارة هنا أيضا إلى أن ميسون تعمد إلى استخدام الوسائل التي تقي نصها من التلاشي في الطبيعة. فهي تلجأ أحيانا إلى تقنية قسرية كالنفاذ إلى دواخل النص بكسر الحدث واحتوائه، وهذا ما يجعلها تدفع بمتلقيها إلى داخل ذلك الحيز الدقيق الممتد في الفلوات، ليحيط بمنجزاته ويرصد لحظاته عن طريق الإصغاء له، بكيفيات متفاوتة منها ما يخص مقولة الجمال وحضوره في النص، و مدى استجابته لمتطلبات اللحظة وهي تتنزل في دائرة الخلق.

لهذا كل ما يورده نص ميسون البصري من حديث وصور وتعابير ودلالات يمكن لملمة شظاياه المبعثرة لتحضر في شكل ومضات، فيها تتشابك تلك الصور والتعابير والدلالات معا وكأنها على وشك أن تتجسد في عرس للطبيعة، فيها تتراقص العلاقات النصية جميعها من بناء وألوان وأشجار وأنهار وموسيقى تحيلنا بدورها إلى علاقات من التجاور معها كإيقاع للمكونات التي تستدعي شروط الإنتاج والانتشار. هكذا يتضح كيف يستعيد النص البصري رؤيته البيانية، وكيف يطال الذرى الجمالية، إذ عليه يعول الكثير من الكلام والإبانة والإفهام.

تنطلق ميسون علم الدين في رحاب مشروعها بدءا من البؤر التي تتقاطع فيها البدايات مع النهايات ولكن دون تنابذ، بل تتزامن على نحو معاصر، وكأنها تلغي التعاقب وتمسك بلحظات محددة في سلّم النص الذي بوسعه أن يمارس سلطانه العاتي في صميمه وجوهره. هذا ما يمكن أن نسميه الزمن الخاص الذي يبنيه النص لنفسه، الذي يتسم بالعودة إلى نفسه، إلى بداياته المفتوحة على نهاياته، ونهاياته المشرعة على بداياته.

ثمة افتتان بذلك الخيط الرفيع الذي يكاد يضيع بين الحدود، وميسون تجزم بأنها تقتفي أثر الأرض والأشجار والأنهار والفراشات، وهي رموز نمطية عليها تنام بين ما خلقه الرب في محاور الفراغ وما أنجزه الفكر البشري من صور متمردة. تبحث عن منشئها بين الذئاب، تقتفي ذلك الأثر لتلغي الزمن وتعود على نحو غير مشروط بزمنها.

تنطلق ميسون في رحاب مشروعها بدءا من البؤر، وتقوم بعمليات التراتب بين مكونات النص وعناصره حتى ترتاد العتبات بصخب وعصف حينا، وحينا آخر بغرس الحنين المحمل بالوجود أو ما تبقى من هذا الوجود ما لم ينحدر بعد، فالجسر يسري للمجهول وإن كانت القصبات ترسم أسوارا تحيط بها، وما يهمنا هنا أساسا هو معرفة ماهية الأشياء التي تحقق ميسون اقترابها منها وكذلك كيفيتها.

ميسون علم الدين تدرك أن للعمل الفني تاريخه وسجاله ومداه، وأنه من الطبيعي أن يقاد توجهه إلى إحياء أسئلة جديدة، وأن الإجابة عنها هي طريقة من الطرق الجديدة التي وفقها يصمد الفنان طيلة فترة شروعه في عملية الخلق للمضي على درب تأسيس نمط من الإنجاز، وهذا يدفعه لأن يكون مغايرا لنفسه قبل أن يكون مغايرا لمنجزه الفني الذي هو نص سيلاحظ عليه التغيير بالضرورة طالما طرأ عليه التغيير اللازم، لا في نظام المعنى فحسب بل في كيفية إنتاجه. فالفنانة منفتحة على ذلك كله، وتطالب منجزها دائما بألا يطاله الضيم وألا يكون خادما ومطيعا، لا لها ولا لمتلقيها، فهي في لحظة حلولها في فضائه تلوذ بالصمت ليحتفظ منجزها بحرارته، فهو جزء من هذا العالم مأخوذ بمقولات لا سلطان عليها، يطالها التبدل والتحول ليفي بحاجات معاصرة تهفو إلى الإحياء واقتفاء الأثر.

تلوذ الفنانة بالصمت لتكون حرة وهي تتحرك في مناطق الاستكشاف، فتفعل فعل التنامي لتذهب بكل أريحية إلى الإبداع، و كأن لسان حالها وحال منجزها يقول إن الفن إما أن يكون مختلفا ومغايرا أو لا يكون، مؤكدة بذلك تصورها لمنجزها كنص إحيائي وإيحائي ينعتق من طرائق تصريف الألوان وإجراءاتها، بطاقة خلاقة تشعل المشاعر مستعملة رموزا لعوالم باتت تنسحب إلى هوامش الحياة.

إذا كان الجمال لا يتحقق إلا بالخلق، فميسون علم الدين تتقن عملية الخلق جيدا، وهذا الارتباط بينهما فيه من الذاتية الشيء الكثير، وبغض النظر عن المتعة التي تمنحها، فهي مرتبطة بملكات نفسية يمكن وصفها بخاصية البحث عن الحقيقة المرتبطة بالباطن أولا وبالخارج ثانيا. بناء على ذلك، يمكن تحديد تأويلاتها دون أن تفقد دلالاتها الحقيقية، فميسون تتلمس فيضا من منظومة جمالية شاملة تتأسس على عناصر الجمال الطبيعي، ولهذا كانت الطبيعة ملاذها رغم تجربتها الطويلة مع وجوه مسكونة بالحيرة.

نعم كانت الطبيعة ملاذها، مدركة أنها أكثر المحاضر الملكوتية التي تقربها من دوائر الجمال غير الخاضعة للقوانين المادية التي قد تخضع التجربة في حالة من الانكسار، فالوقوف هنا على إشكالية موقعها من مسألة الجمال الطبيعي يضع تجربتها بالضرورة على طاولة البحث، فهي تراعي تقاطع المسافات المعرفية مع المسافات الجمالية بمعطيات واردة في عمليات خوضها لهذا المضمار، ذلك أن في أبعاد ألوانها كل الدلالات لجهة ربطها بالمواضيع الحسية، فكل مفاصل منجزها تبعث السرور في الطبيعة وفي نفس القائم بالبحث عن مفهوم الجمال، واستحضار كل المرادفات التي قد لا تصيب حقيقة المعنى المقصود، وقد تصيب صميمها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى