تشكيل وتصويرفن و ثقافة

التشكيلية مها المنصور تتشبث بالفراغ لتشيّد مفاهيمها الجمالية العنيدة

اشتغل الكثير من الفنانين المعاصرين على المساحات الفارغة شأنهم في ذلك شأن الكتاب والشعراء وبقية المبدعين، ويأتي هذا التوجه إيمانا بأهمية الفراغ ودوره في قول الفكرة والتعبير وتشكيل جماليات ورمزيات وأفكار خاصة، تتكامل مع بقية العناصر لتخلق لحمة العمل الفني وانفتاحه أيضا. ومن بين الفنانين الذين أبدعوا في التعامل مع الفراغ التشكيلية الكويتية مها المنصور.

تعمل الحواس الحاضرة في المنجز الفني الذي تقدمه التشكيلية الكويتية مها المنصور على تحفيز التمعن العميق في العلامات، تلك التي تتجول برفق متقن الحركة في اللوحة والفيديو وهي تتراءى بين الكثافة والفراغ، وذلك الفراغ المكتظ بالسكون يحمل المعنى الصاخب في دلالاتها البصرية التي تركز على إشكاليات الموجود والمنشود الهوية والانتماء والطموح والبحث والتميز والانطلاق، فكيف تتكامل الكثافة مع الفراغ في مفاهيمها البصرية وكيف للفراغ أن يحتوي المعنى بتجلياته الحسية والذهنية في تجريبه البصري الناعم والعميق.

الفراغ معنى بصري
المنصور ترى في الفراغ عنصرا أساسيا للعمل الفني باعتباره الركيزة التي تظهر من خلالها الكتل وبقية العناصر

الفراغ كمصطلح ليس مجرد مساحة فارغة ولا فضاء متروكا ولا هو إسقاط على عناصر اللوحة كما أنه ليس مجرد تقنية أو أسلوب فحسب، بل هو تصور هندسي رياضي فيزيائي فني وجمالي عبقري وكوني له أبعاده المتداخلة في التصورات المرئية وانعكاساتها الماورائية التي تؤسس باتزان مفاهيمها، والعلاقة المتينة بين الفنان والمتلقي والعمل الفني.

ولذلك فإن البحث في مفهوم الفراغ في الفن يعد بحثا عميق القراءات التي تخص كل تجربة وكل أسلوب تمكن من أبعاده وأجاد القبض على أسسه وتشكيل عناصر المُنجز.

فمن خلال ذلك الفراغ يرتقي العمل بذائقة الفكرة ويؤثر على تذوق المتلقي، وقد عبر كل فنان بتجربته عن مدى تملكه للفراغ كهندسة وتقنية ومفهوم.

والفراغ هو الفضاء والمساحة الفارغة والفسيحة التي تخدم فلسفة التكوين ومفاهيمه مع الطبيعة والوجود والفكرة وهي مساحة مهمة وعنصر رئيسي يوازن طبيعة الفكرة وأسلوب التعبير ومكانة الكتلة والشكل والمادة والألوان والحركة والتأثير فالفراغ في الفن مثل الصمت في القصيدة هو العنصر الشفاف للفكرة فهو المنعكس من خيالنا إنه حكمة الصفاء التي تظهر مثل الريح مراوغة ولكنها غير مرئية، الفراغ هو مفهوم الحقيقة.

يعتبر الفراغ من المفاهيم المهمة والفاعلة والمؤثرة في الفن التشكيلي وتصوراته وفي تحديد عملية البناء والإنشاء الخاصة بالعمل، ولا يمكن تخصيصه في تجربة دون أخرى ولا في مستوى دون آخر ولا في مرحلة على حساب أخرى، فهو ارتكاز التنفيذ وتمكن عميق من المحتوى كفكرة ومن التصور كجماليات ومن تناسق اللون وهندسة الأفق البصري للمنجز الفني، وكما يقول المهندس المعماري الأميركي فرانك لويد “الفراغ هو متنفس الفن”، فهو العنصر الأساسي الذي تفرض قواعده الغوص في أبعادها ومحاكاة فضائها باختلاف الرؤية والمرحلة، فهو ليس تملكا بصريا كلاسيكيا أو حداثيا أو ما بعد حداثي، بل هو تمكن الطرح البصري بمفاهيمه الدلالية من صناعة البصمة التكنيك التكويني وجمالياته العميقة.

أثر الفراغ على المفاهيم الفنية في الفترة الحديثة وفترة ما بعد الحداثة بوصفه قيمة جوهرية وجزءا أساسيا وملموسا من تركيبة العمل الفني، فلم يعد المكمل بقدر ما تحول إلى الأساس وقد ابتدع من تفاعلاته مع الفضاءات والمفاهيم فلسفة التركيب والابتكار وهنا نذكر التجديد الفني في الأسلوب في التجريد والسريالية وفي التجربة المعمارية الحديثة والمعاصرة مع الفراغ، والتي أسست لجماليات غير مألوفة في هندسة البناء وابتداعها الابتكاري، كما في منجزات زها حديد التي اعتبرت ظاهرة مجددة في المعمار وأكثر من ركزت على مفهوم الفراغ في العمارة، حيث آمنت بالفضاء، واستشرفت عمق المفهوم في المساحة، وهي تعالج حالات التواصل الإنساني مشاعر التفاعل مع الطبيعة والاتصال بها رغم التطور العمراني، كما أنها آمنت أن الفراغ ليس إلا متعة التهيئة في الفضاء وما الشكل إلا توازن الجماليات ابتداعها هو تطويع للفراغ خاصة وهي تؤنث قواعد العمارة الصارمة بمفاهيم الفراغ وضروراته كمتنفس الإنجاز وتفاعل العمارة مع الطبيعة وتناسبها مع الحركة التشييدية والتوازن الرؤيوي فيها.

الفراغ في الفن كما هو متعارف هو الحيز الذي يشغل المكان ويتفاعل مع الحركة والحجم والارتفاع والارتكاز، وحسب تعريفاته الباحثة اختلف واستدل بأسسه على التعبير عن العبقرية الجمالية ومدى القدرة على الابتكار في المساحة والفضاء والزمان وتطويع العناصر في المكان وفي المفاهيم، كما أن الفراغ في العنصر المعاصر للفن يختلف عن درجة الاستيعاب في العنصر المألوف له حسب الأساليب.

وفي تجربة الكويتية مها المنصور ارتكاز مميز على عنصر الوقت ومحتوى البحث فيه وترتيب العلاقات بين العلامات البصرية حروف، ساعات، أرقام ملامح كلها تتوازى مع الفراغ وتندمج مع المساحة لتؤسس مفهوم الذاتي للفراغ ومنطلق معانيها ومقاصدها.

تساؤلات البصيرة
لم تكتف مها المنصور بتجربة واحدة ولا بمسار محدد في التعبير الفني فهي تتحدى نفسها بتجاوز النمط بالتجريب والفكرة بالجرأة الفنية واستفزازات الواقع بالمفاهيم المركبة والتطوير الجمالي للصورة والألوان.

إن ما حفر اسم مها المنصور فنيا وفتح لها منافذ التعمق في التجربة هو اكتمال البحث والمواكبة وتفصيل الرؤية في جماليات التوسع في اللوحة والامتداد في الفيديو، حيث التراكم ترتيب والفوضى انعكاس.

وهو ما يؤكد سعيها الدائم لترتيب الفوضى في أفكارها مكنتها من فهم قيم العمل الفني والانتساب للمفهوم البصري، ولعل مفهوم الفراغ يعد من المفاهيم العميقة التي تثير الكثير من التساؤلات الأسلوبية التي استطاعت المنصور أن تُحكم تنظيم مفاهيمها بعد مراحل وصدامات بناءة، مكنتها من أن تتحول عبر الأساليب برشاقة لا تعرف حدودا للاكتمال في الفضاء ولا في تحمل الفراغ في الحضور والتخفي بصخب متعمد.

ترى المنصور في الفراغ عنصرا أساسيا للعمل باعتباره الركيزة التي تظهر من خلالها الكتل وبقية العناصر كما أنه ناقل للمعنى في فضاء اللوحة ومتمسك بالحركة في الفيديو من خلال الشاشة وما يلهمه لعناصر الصورة ليخلق التناغم.

فاعتمادها الرسم والتصوير أهلها لترتيب المساحة وتطويع الفراغ بزواياه وأبعاده كما ساعدها لتتحكم في ثبات الفكرة ومرونة المفهوم.

عناصر رمزية
إن اعتماد الفنانة الأسلوب التجريبي في السريالية المعاصرة دقيق في الدمج بتميز تعاملها مع الأداء والكولاج، وهذا التنوع التقني في لوحاتها وأعمالها التركيبية متعددة الوسائط، وفي تجربتها البصرية مع الفيديوآرت حيث الفراغ لا يُعتبر مجرد عنصر بل هو أساس محمل بالصمت في الفيديو وباللون والتبادل والابتكار بين الفراغ السلبي والايجابي، فراغ العمق والفراغ المبتكر في محاورة العناصر والأشكال والألوان وكذلك في العلامات المضافة على اللوحة.

تعبر المنصور عن الفراغ باللون ومحدثاته التدريجية باعتباره يعبر عن الحالة والمزاج والحدث وبالتالي الرمز الحيوي الدال على ذلك، وهذا التكامل يتحكم في الموازين ثقيلة أو خفيفة تتعامل مع العناصر بالهدوء والصخب.

إن تعاملها مع الفراغ يختلف من حيث المفهوم في اللوحة وفي الفيديوآرت، إذ أنها في اللوحة تشتغل على الألوان والكتل وتدريجها اللوني مثل اللون الأحمر الذي يميزها في معنى الحياة وأنوثة البقاء وأحيانا تغطي به المساحة، ومنه تبتكر ذاتها وكأنها تخلص الفراغ من فكرة اللاكتلة أو اللامادة وفي الفيديو توظف المؤثرات الصوتية والعناصر الحركية.

قيمة الوقت وفراغاته الانتظار وامتلاؤه بالترقب الرمزي ومفاهيمه التي تتجاوز الصورة ومرئياتها المعتادة هي المفاهيم التي شغلت فكرة الفراغ عند مها المنصور باعتبارها متنفسا، فهي لم تتعامل مع الفراغ كمجرد تكنيك يفرض الديناميكية بل كمقصد دلالي له تكويناته المتجددة، فالفراغ هو التحول بين الزوايا وكسر حواجزها للمرور نحو فراغات أخرى وتجديد منافذها للتعبير أكثر عن الانعتاق الأول وكأنه صياغة دائرية تنبع من رحم الكون والتكوين.

من خلال عناصرها الرمزية تتمكن الفنانة من تدريج اللون الأحمر وتشكيل الساعات وتلطيخات الأبعاد الضوئية وتعتيم الظلال وهندسة الألوان في اللوحة وتشتيت الضوء والتحكم في الألوان والكادر العام للفيديو والملامح والمؤثرات وتداخلات الصمت وحركته، في محاكاة لقيمة الوقت وقياساته الزمنية في كل لحظة عابرة تعبر عن مفهوم الترقب والانتظار التردد والانطلاق التعايش والتفرد في صياغات الوجود والتكوين.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى