11المميز لديناسير و شخوصشخصية ذات بصمة

طبيب الغلابة.. قناعة تفيض وعطاء لا ينضب

الدكتور محمد مشالي.. رجل بمنظومة كاملة، كرّس حياته لخدمة الفقراء والمحتاجين، فكان الطبيب المعالج واليد المعطاءة التي توفّر للفقراء ما لم تستطع منظومة الصحة بأكملها توفيره لهم، يقضي أكثر من اثنتي عشرة ساعة في خدمتهم دون كلل، غير ملتفتٍ لمنصب أو جائزة، متنقلًا بين عيادات ثلاث، ليتقاضى عن كل مريض منهم أجرًا زهيدًا جدًّا لا يزيد عن خمسة عشر جنيهًا، فلقّبوه بـ”طبيب الغلابة”.

يستيقظ الدكتور محمد عبد الغفار مشالي، في السابعة صباحًا وبعد أن ينهي كل ما وراءه في المنزل، يذهب إلى عيادته في مدينة طنطا، المطلة على باحة مسجد “السيد البدوي”، في العاشرة صباحًا، ليستقبل مرضاه بحفاوة يمنعها تقدّم العمر من الظهور، ثم يغادرها في التاسعة مساءً ليلحق بقطار التاسعة والربع متجّهًا إلى عيادته الثانية بقرية محلة روح، ليقضي بها عدة ساعات قبل أن يركب مواصلة أخرى تقله إلى عيادته الثالثة بشبشير الحصة، ويصل منزله في الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل.

رحلة عطاء متواصلة استمرت أكثر من نصف قرن من الزمان، قضاها الدكتور محمد مشالي في خدمة المرضى، خاصة الفقراء منهم، غير آبه بالمناصب أو الجوائز والأوسمة التي قد يسبقه بها من هم في عمر أبنائه، مكتفيًا بدعوات “الغلابة” بالرزق والبركة، لتنتهي مسيرته في الثامن والعشرين من يوليو هذا العام، بتشييع ضخم ودعوات صادقة جابت العالم العربي بأكمله، وحديث في الإعلام الغربي كذلك.

مولده ونشأته:

ولد الدكتور محمد عبد الغفار مشالي، في قرية ظهر التمساح بمركز إيتاي البارود، بمحافظة البحيرة في دلتا مصر عام 1944م، لأب مدرّس وأسرة بسيطة تعيش في بيئة متواضعة، كانت البذرة لعنايته بالفقراء، ولأنّ والده كان من كبار رجال التعليم، فانتقل للعمل بطنطا عاصمة محافظة الغربية، وانتقلت معه أسرته عام 1957م.

أتم مشالي تعليمه الثانوي بطنطا، ثم التحق بكلية طب قصر العيني في القاهرة ليحقق رغبة والده، وفي عامه الأخير بالجامعة توفي والده تاركًا مسؤولية إخوته الخمسة ووالدته ملقاة على عاتقه، الابن البكر الذي لم ينهِ مرحلته الجامعية بعد، يقول اللواء أسامة مشالي الشقيق الأصغر للطبيب الراحل، إنّ محمد كان بمثابة أب له، خاصة وأنه تكفّل به وبإخوته، فحينما كان في المرحلة الابتدائية توفي والدهم، بينما كان مشالي في السنة الأخيرة من كلية الطب عام 1967، “كان بارًّا جدًّا بوالدتي”.

حياته العلمية:

تخرّج محمد عبد الغفار مشالي في مدرسة الأحمدية الثانوية بطنطا بمجموع كبير، ورغم شغفه بدراسة القانون، لكنّه نفّذ رغبة والده في الالتحاق بكلية الطب، “كان نفسي أدخل كلية حقوق، ووالدي الله يرحمه قال لي أنا أمنية حياتي كانت إني أكون دكتور، فلما ظروفي ما سمحتش، نذرت إن أول أبنائي يدخل كلية الطب بأي شكل”، وعندما عارضه محمد بأنه لا يحب الطب، قال له: “لو ما دخلتش طب أنا مش هصرف عليك”.

تخرج مشالي من كلية طب قصر العيني يوليو 1967، وكانوا يلقبون دفعتهم بـ”دفعة النكسة”، لأنهم حضروا امتحانات البكالوريوس، وغارات العدوان الإسرائيلي فوق رؤوسهم، وكان يقول “احنا كنا بنمتحن يوم 5 يونيو والطيران فوق روسنا”. كان الطبيب آنذاك يتخرج دون تخصص، فالتخصص عام، والمسمى متخصص في الأمراض الباطنة.

حياته العملية:

بمجرد أن تخرج مشالي من كلية الطب، تنقّل بين المراكز والوحدات الصحية التابعة لوزارة الصحة في الأرياف، وقتها لم يكن مسموحًا للطبيب العامل في وزارة الصحة بالقطاع الريفي افتتاح عيادة خاصة به قبل أن تتم ترقيته، وبعد ثماني سنوات من تخرجه وتحديدًا في الرابع عشر من سبتمبر عام 1975 افتتح عيادته الخاصة بمدينة طنطا، بعد أن تمت ترقيته ليكون مديرًا لمستشفى حميّات طنطا ومستشفى الأمراض المتوطنة.

كما عمل بعيادتين أخرتين في قريتين من قرى محافظة الغربية، وهما: محلة روح وشبشير الحصة، إذ أصر أهل القريتين أن يفتحوا عيادة للطبيب عندهما، ليواصل معالجة “الغلابة”، بعد أن أنهى خدمته في القطاع الريفي، فنزل على رغباتهم، وكان له عدد ساعات يوميًّا في كل عيادة منهما إضافة إلى عمله بعيادته في طنطا.

ومنذ بدأ مشالي عمله الخاص قبل خمسة وأربعين عامًا، كان سعر الكشف للمقتدر في عيادته بطنطا، عشرة قروش، وتدرجت لتصل إلى 15 جنيهًا في أواخر أيامه عام 2020، بينما غيره من الأطباء لا يقل كشفهم عن 80 جنيهًا وقد يصل إلى الألف، وغير المقتدر كان كشفه مجانيًّا بالإضافة إلى صرف بعض الأدوية وعمل التحاليل اللازمة دون مقابل. وظل سعر الكشف في عيادتي محلة روح وشبشير الحصة خمسة جنيهات فقط.

ورغم إحالته إلى التقاعد عام 2004، لكنه ظلّ مصرًّا على مواصلة عمله حتى آخر يوم في حياته، راجيًا أن يكون خدمة للفقراء والمحتاجين، ومعبّرًا عن نفسه بقوله “أنا ربنا خلقني نشيط جدًّا ما أقدرش أقعد في البيت”.

طبيب الغلابة:

لم تكن معايشة الدكتور محمد مشالي للفقراء والبسطاء في صغره، ووصايا والده له وهو على فراش الموت “يا محمد، لو جالك أي واحد فقير اوعى تاخد منه كشف”، السبب الوحيد ليكرّس حياته وعلمه خدمة للبسطاء والفقراء، فأساتذة الطب في القصر العيني، أوصوهم بالمهنة خيرًا، وكانوا يقولون “يا أولاد، اللي فيكم عايز يعمل عمارة أو يجيب عربية عشرة متر يروح يشتغل في البورصة أو التصدير والاستيراد، لكن ما تاخدش من لحم الفقير المريض عشان تبني عمارة أو تجيب حاجة، دي مش تجارة، الطب إنسانية وخدمة عامة”.

كما أن مشالي كان متأثرًّا كثيرًا بعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، معتبرًا إياه “أباه الروحي”، خاصة كتاب “المعذّبون في الأرض”، الذي كان ينادي فيه بالعدالة الاجتماعية، والرفق بالفقراء والمهمشين، محافظًا على وصايا والده التي أنارت له طريقه “ربنا فوق وطه حسين تحت يا محمد”. كل ذلك كان له دوره في إنبات شجرة عطاء الدكتور محمد عبد الغفار مشالي.

لكنّ الحدث الذي توّج كلّ تلك الوصايا بالإصرار على تنفيذها، وتكريس حياته وعمله خدمة للفقراء، كان عندما عُيّن في بداية حياته المهنية في إحدى القرى والتي كانت تعاني من فقر شديد، “كان فيها طفل عنده عشر سنين وكان مريض سكر، هذا الطفل قال لوالدته هاتي لي حقنة الأنسولين عشان أنا تعبان خالص وريقي ناشف وهبطان، قالت له يا ابني لو جبت لك حقنة الأنسولين اخواتك مش هياكلوا القرش اللي معايا يا دوب أجيب لهم طعمية وعيش يتعشوا”، وقتها صعد الفتى على سطح المنزل وأشعل النار في نفسه، وقال لأمه “يا ماما أنا موّت نفسي عشان أوفر لاخواتي حق الأنسولين ياكلوا بيه”، ومات بين يدي الطبيب مشالي الذي ضمه بعد أن لفه بغطاء محاولًا إخماد الحريق.

فلسفته ومنهجه:

يلخّص مشالي فلسفته في الحياة بقوله “كل إنسان مهياٌ لما خُلق له، أنا اتخلقت للغلابة”، ورغم تحمّله المسؤولية صغيرًا لكنه ما فتِئ يقول “لقد أعطتني الدنيا أكثر مما أتمنى، وأكثر مما أستحق”. رحلة عطائه بدأت وهو في الثالثة والعشرين من عمره، عندما أصبح مسؤولًا عن والدته وإخوته الخمسة، فكان يكافح في العمل متنقلًا بين قرية وأخرى لتوفير متطلبات الحياة لهم، ثم وبعد أن توفي أحد إخوته عن ثلاثة أطفال صغار تكفّل بهم حتى أنهوا تعليمهم الجامعي. ولم يمنعه زواجه وأولاده الثلاثة من تكريس حياته لمساعدة المحتاجين من أهله أو من فقراء بلده.

قال هاشم القماش سكرتير عيادة مشالي، إن الدكتور محمد كان يتمنى أن يظل يخدم الغلابة حتى آخر يوم في حياته، وقد حقق الله أمنيته؛ فظل يعمل في عيادته واستقبل مرضاه بشكل طبيعي حتي التاسعة من مساء الأحد السادس والعشرين من يوليو، ليكون آخر وأول يوم تُغلق فيه عيادته هو يوم وفاته.

اهتماماته:

لا يفوت حديث للدكتور مشالي، إلا ويذكر فيه أنه عاشقٌ للقراءة، يستغل الدقائق القليلة التي تفصل بين دخول مريض وخروج آخر في قراءة كل ما تقع عليه يده من مجلات وصحف بل وكتب في القانون كذلك. شغفه بالقراءة ورثه من حبّ أبيه للدكتور طه حسين ووصيته له بالاستماع إليه، يقول “كان الدكتور طه حسين في مقابلة على التلفزيون وكنت قاعد، فكان بيقول للشباب الجديد أوصيكم بالقراءة”.

أما عن ثاني اهتماماته، فتشجيع نادي الزمالك المصري، ومتابعته له في كل البطولات، واهتمامه الشديد بمعرفة كل ما يخصه، سواء من بضع دقائق يقضيها أمام التلفاز في منزله قبل النوم، أو من بعض الأخبار والمقالات المنشورة في الصحف اليومية.

مواقفه الشهيرة:

لم تكن المرة الأولى التي يرفض فيها الدكتور مشالي المساعدات المادية التي تُعرض عليه، معتبرًا ما يقوم به من عمل “ابتغاءً لوجه الله وتقربًا إليه”، مؤكدًا في كل مرّة قدرته على ارتداء أفضل الثياب وتجهيز أكبر وأفخم العيادات دون مساعدة أحد، لكنه يُفضّل عيادته وثيابه التي لن تجعل أحدًا من الفقراء، الذين وهب لهم حياته، يخافون من الكشف عنده لهيئته وعيادته؛ لكنّ رفضه مساعدات “غيث” مقدّم برنامج “قلبي اطمأن” التي تُقدّر بالملايين، كان لها بالغ الأثر في نفوس العالم العربي أجمع، فمدحه فنانون وشباب من كل البقاع، وتصدرت قصته الصحف العالمية.

وفاته:

توفيّ الدكتور محمد عبد الغفار مشالي فجر الثلاثاء الموافق الثامن والعشرين من يوليو هذا العام، عن عمر يناهز 76 سنة، إثر هبوط حادٍّ في الدورة الدموية، في اليوم الذي أسماه أخوه بـ”اليوم المستحيل”، وهو اليوم الذي لم يذهب فيه لعيادته منذ 45 عامًا، دون عطلة ليوم واحد.

رحم الله طبيب الغلابة الذي رحل مخلّفًا وراءه ميراثًا يُقدّر بثلثي عمره في خدمة المرضى، وكثيرًا من ذكريات الفقراء والمحتاجين، فكان شجرة رحمة وعطاء تظلهم ما يزيد عن نصف قرن من الزمان، أصلها دعوات لا تكف ألسنتهم عن اللهج بها، وفرعها وصال في السماء.

مقالات ذات صلة

‫47 تعليقات

  1. عظيم أن وخالد وننتذكر كل نموذج جيد لكي معلم الاجيال معني الرحمة والحنين علي الفقراء والمحتاجين

  2. رحمة الله د مشالي الذي رحل وترك وراءة ميراثا يقدر بقلبي عمرو في خدمة المرضي والفقراء

  3. طيب الغلابة مثال حي علي رحمة الله علي عبادة وجعل ناس في قلبهم رحمة بظروف المرضي المحتاجين

  4. رفض طيب الغلابة مرارا وتكرار أي مساعدات مالية أو أي هدايا غير سماعه الكشف للحفاظ علي بوابة العظيم

  5. طبيب الغلابة كان لا يهتم بالمظاهر أو الملابس الفاخرة كان ينظر فقط لعمل الخير دون النظر إلي أي انتقاد

  6. كيف لا يكون أنبل وأصدق واعظم ما أنجبت مصر .وهو عاهد الله على ان لا يأخذ قرشا او دينارا من فقير أو معدوم ..

  7. الله يرحمك يا دكتور مشالي رمز عطاء وحب هذا الرجل اثبت ان دار الدنيا دار فناء وعمل فقط لدار الاخره في جنة الخلد ان شاء الله يا دكتور مشالي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88