ترجمة ‘القرصان الأسود’ رائعة أميليو سالغاري للغة العربية لأول مرة
شكَّلت الحكايات الشعبية في الثقافات المختلفة، ذاكرة إضافية للكتَّاب والمبدعين الذين ارتكزوا على كثير منها في عملية إعادة إنتاج القصص الخيالية، بينما كان الإيطالي سالغاري في حدِّ ذاتِه مصدراً ومنبعاً لآخرين شكَّلوا إنتاجَهم الإبداعي بناءً على ما أسَّس في رواياته وقصصه من ملاحمِ القراصنة في البحر، في عملِه الأول المترجم إلى العربية بعد صدوره بأكثر من مئة عام، يكتشف القارئ بالعربية هذه العوالم عبر رواية “القرصان الأسود” بترجمة العراقي كاصد محمد.
انبثقَ من البحر صوت جهوري ذو جلجلة معدنية، وتردَّد صداه في الظلامِ، متوعِّداً: قفوا يا رجال القاربِ وإلا أغرقناكم!”. بهذا التشويق لعوالم غريبة ينطلق المترجم العراقي وأستاذ الأدب في جامعة بولونيا الإيطالية، كاصد محمد، إلى دوائر السرد المتشابكة في ملحمة الإيطالي اميليو سالغاري التي حملت اسم “القرصان الأسود” الصادرة عام 1898 للميلاد.
قبل الولوج إلى الرواية التي أصدرتها منشورات المتوسط في ميلانو، لا بد أن نتساءل هل كان على العرب الانتظار أكثر من مئة وعشرين عاماً لقرأوا أدب سالغاري الذي شاعت شخصياتُ أعمالِه الروائية في أغلب ثقافات الأرض؟
اميليو سالغاي ألَّف أكثر من مئة وثمانين رواية ومجموعة قصصية، معظمها تدور حول عوالم المغامرة والبحار وتلك القوانين التي تحكمها، لقد كتبها قبل ظهور هذا النوع من الأفلام السينمائية أو المجلات المصورة بما يقارب خمسين عاماً، فسالغاري وُلِد عام 1862 في مدينة فيرونا الإيطالية، لعائلة ثرية تمتهن التجارة.
التحق في بداية شبابه بالمعهد البحري في البندقية لكنه ما لبثَ أن تركَه ليبدأ مشواره كصحافي، تلك الحياةُ التي أخذته بعيداً حتى قرر الانعزال والحياة فقيراً في مكتبه ليغرق في الكتابة أكثر قبل دخوله في حالة اكتئاب حاد دفعته إلى الانتحار عام 1911 في مدينة تورينو.
يغرق سالغاري في “القرصان الأسود” بتفاصيل مشهديه آسرة، أقتبس من ترجمة كاصد محمد هذا الوصف “تلك السفينة التي كان يصعب تمييزها قبل قليل بفعل الظلام الدامس.
كانت سفينة متينة كتلك التي يصنعها قراصنة التورتو لمطاردة سفن النقل الإسبانية الضخمة التي تنقل الذهب من أميركا الوسطى، والمكسيك والأقاليم الأكوادورية، إلى أوروبا.
كانت تلك السفن الشراعية ذات صوار طويلة جداً، تمكِّنها من استغلال أي نسمة هواء، ضيِّقة من الأسفل، مقدِّمتها ومؤخِّرتها عاليتان جداً، كما كان شائعاً في تلك الحقبة، وكانت مسلَّحة بشكل هائل، فيها اثنا عشر مدفعاً، تمتد فوهاتها السوداء من على متن السفينة، بينما نُصب مدفعان بعيدا المدى على الجانب المرتفع من مقدمة السفينة”.
المشاهد لا تتوقف عند الصورة التي يتشكل منها الحدث، بل تتعدى ذلك نحو أبطال الرواية، فالتفاصيل في “القرصان الأسود” تجتمع مع بعضها البعض كلوحة يعاد رسمها وتقديمها في بحر من الأحداث المتتالية غير المنفصلة الممتلئة بالمفاجآت والاكتشاف.
تبدأ الحبكة في النص عندما يعلم القرصان الأسود من بحَّارَين آخَرين بمقتل أخويه القرصان الأحمر والقرصان الأخضر على يد القائد فان غولد، حيث شنق الأخير القرصان الأحمر في ساحة غرناطة وعلَّقه ثلاثة أيام قبل أن يرميه في المستنقع.
حين يعلم القرصان الأسود بذلك يقرر أولاً الذهاب خفيةً رفقةَ البحَّارَين في رحلة نحو ساحة غرناطة، هذه الرحلة مغامرة حقيقية يمشيها القارئ خطوة خطوة مع سالغاري، على شاطئ البحر المحمي في أعاليه من الجمارك وفرقة الحدود، حتى الاختباء في غابةٍ كثيفة حيث يقوم القرصان ومرافقوه بأسر شاب إسباني يضيفُ لمعلوماتِهم الشحيحة أصلاً حول القصة، معلومات أخرى حول مصير القرصان الأحمر، وعدد الحرَّاس المتواجدين في ساحة غرناطة حيث يتدلى القتيل ورفاقه قبل رميِهِم بعد ثلاثة أيام للوحوش في الغابة بحسب رواية الإسباني الأسير.
تنتقل الأحداث بعدها إلى مدينة “ماراكايبو” وهي كما يعرِّفها سالغاري: من أهم المدن الإسبانية على ساحل الخليج المكسيكي، ما إن يلجَ القرصان الأسود ومرافقَيه إلى المدينة حتى يتَّخذوا من زنجي مساعداً لهم بعد أن ساعد البحَّارَين الهارِبَين من حفلة إعدام القرصان الأحمر.
هذه الصحبةُ قادتهم إلى حانة قديمة، صارت بعد لحظات من وصولهم مسرحاً لمبارزةٍ راحَ ضحيَّتها بحار استهزأ بالميِّتين، فكسرَ القرصان الأسود نصل سيفه في بطنِ الرجل بعد أن سمَّرَه على الحائط، آخذاً سيفاً طُليطليًّا من يدِ القتيل. هكذا تبدأ القصة في منحى آخر يقوم على الخطوات المتسارعة، فالقرصان الأسود صار حقيقة في قلب الحدث، على مرمى حجَرٍ واحد من جثة أخيه القرصان الأحمر.
يعود بنا سالغاري إلى حقد دفين حمله الدوق فان غولد قبل انطلاقِه من أوروبا نحو أميركا اللاتينية، ضد الإخوة الثلاثة، الأخضر والأحمر والأسود، بسبب ذيوع شهرتِهم في الخليج البحري ومهاجمتهم الإسبان بشكل دائم.
لقد تمكن الدوق من اعتقال أصغر الأشقاء، القرصان الأخضر، وقام بشنقه كما فعل ذلك مع القرصان الأحمر، وكلاهما تمكّن شقيقهما الأكبر القرصان الأسود من إنزالهما من منصة الإعدام بعد موتهما وقبل رميهما إلى الوحوش في الغابة، لقد وارى الشقيق الأكبر أخويه قعرَ البحر، لقد اختار لهما البحر مأوى ومسكناً أبدياً ليظل قريباً منهما.
هكذا العداوة صارت عند نقطة اللاعودة بين الدوق والقرصان الأسود الذي خاض مغامرات عديدة في رحلة إنقاذ جثماني أخويه، فيعود بعد نجاته مع مرافقَيه والزنجي إلى بحارته حيث يقود هجمات مستميتة ضد الحاميات الإسبانية في البلاد.
في إحدى مواجهات القرصان في البحر مع سفينة إسبانية يأسر عدداً من البحارة والنساء، يقعُ في حبِّ إحداهنُّ، إنها نبيلة إسبانية، فيقسم لها على الحماية الدائمة ثم تمر الأيام ويكتشف بمحض الصدفة بعد اشتباكات أخرى مع جنودٍ إسبان أنَّ هذه الدوقة هي ابنة الدوق فان غولد عدوّه الأزلي.
وهنا ينقلب القسم متذكراً عهدَه لجثمانَي أخويه، فيجهِّز قارباً ببعض المؤونة ويترك الأمواج تتلاطمُ بالقارب الصغير الذي يقلُّ المرأة وحيدة نحو مصيرها، قبل أن يغرق في نوبة بكاء حاد بمشهد اختاره سالغاري بعناية بالغة لختام ملحمته “القرصان الأسود”.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن العمل الأول لأميليو سالغاري الذي يُتَرجَم إلى العربية، جاء بلغة ساحرة مترابطة مسبوكة بطريقةٍ تبدو كأنها بُنِيَت أساساً بالعربية على يد المترجم كاصد محمد .