رواية “اللاجئ العراقي” لعبدالله صخي هل هي تصفية للماضي ..؟!
رواية “اللاجئ العراقي” لعبدالله صخي هي امتداد لروايتيه السابقتين “خلف السدة” 2008 و”دروب الفقدان” 2013. امتازت الرواية بلغة شعرية، وتداخل السرد والحوارات والتداعي، مع وصف دقيق، واستخدم تيار الوعي في عمل روائي متكامل، مجد الكاتب فيه الحياة والحب، وجعل منهما غاية، وهدفاً سعى إليهما بطله -الذي كان مشروع مطرب- بكل ما أوتي من قدرة، ولكن أُجهضت أحلامه بقسوة الغربة.
بطل الرواية “علي سلمان” -اللاّجِئ- حالما يشعر أنَّ البلد الذي يعيش فيه يفتقد الحب والحياة الكريمة، يقرر تركه فوراً، ليبحث عن بلد آخر، حتى لو اضطرَّه ذلك إلى ركوب المخاطر.
وهذا ما يؤكده انتهاج الكاتب صخي في ثلاثيته تدوين سردية كاشفة عن هجرات العراقيين المختلفة، بحثاً عن الأمان والعيش الكريم، والتي ستبقى شهادة مؤثرة، على ما عاشه العراقيون من صنوف الحرمان في منافيهم إلى يومنا الحالي.
الرواية الجديدة لصخي، التي صدرت سنة 2017 عن دار المدى ببغداد، امتداد حقيقي للرواية الواقعية العراقية، التي كتبها قصاصون عراقيون تحولوا إلى كتابة الرواية، كمحمود عبدالوهاب في روايته “رغوة السحاب”، ومهدي عيسى الصقر في روايته “الشاهدة والزنجي”، وفاتح عبدالسلام في روايته “عندما يسخن ظهر الحوت”، وعبدالستار البيضاني في روايته “عطش على ضفاف الدانوب” وغيرهم.
عبدالله صخي بدأ بكاتبة القصص القصيرة، وكان ينشرها في السبعينات من القرن الماضي في جريدة “طريق الشعب” بالعراق. وكانت قصصه تذكر بأساليب القاص الأرمني الأميركي وليم سارويان، فيما يتعلق بالتقنية القصصية، واللغة الشعرية. كتب وقتها عن الطفولة المهيضة، والعمال الوقتيين، وله مجموعة قصص يتيمة بعنوان “حقول دائمة الخضرة”. ونجد ما يشبه تلك الطفولة البائسة في الكثير من فصول روايته الجديدة أيضاً
يقول الكاتب لـ”العرب” عن روايته “ظلت نهاية روايتي الثانية ‘دروب الفقدان‘ مفتوحة. وقد انتبه الكثير من القراء لذلك. وطالبوني بإكمال مشروع الهجرة، الذي بدأ في روايتي ‘خلف السدة‘ حيث قدم المستكشفون الأوائل من جنوب العراق إلى بغداد، وسكنوا بجوار سدة ناظم باشا. وفي ‘دروب الفقدان‘ تابعت حياتهم الجديدة بمدينة الثورة (الصدر) التي انتقلوا إليها أوائل الستينات من القرن الماضي. وفي ‘اللاّجِئ العراقي‘ اقتفيت أثرهم إلى خارج العراق عقب العام 1977. ومن بين هؤلاء المهاجرين الجدد علي سلمان. هكذا وجدت نفسي أمام ثلاثية تتناول الهجرة، والقلق والخوف من المستقبل، كما يعيشه العراقيون طوال العقود الأربعة الماضية”.
ويضيف الروائي عن أسباب كل هذه العذابات، التي عاشها أبطاله بصبر عجيب، وقدرة فائقة على الأمل في تغيير ظروف حياتهم، فيقول “لم يحدث في تاريخ العراق القريب أن تسلمت الحكم سلطة عملت لبناء الإنسان، وتسهيل حياته وتوفير مستلزمات التطور فيه، بل على العكس كل السلطات استهدفت المواطن لنهبه، وتدجينه، وتحويله إلى تابع لا يحسن الدفاع حتى عن نفسه. ومن هنا تتبعت علي سلمان الشخصية المستقلة، المسالمة، الذي حاول أن يجد مأوى، فواجه ما هو أقسى وأمرّ من الواقع الذي هرب منه. وقد كان منطلقي تصور جان بول سارتر للرواية التي يراها ‘تصفية حساب مع الماضي‘. وهكذا في الثلاثية حاولت أن أعرض ماضي الشخصيات وحاضرها، فالرواية تتطلب استيعاب عناصر الحياة التي لا تحصى”.
ويستطرد عن هدف كتابته “الكتابة بالنسبة إلي دفاع عن إنسانية العراقي المنتهكة منذ عقود، وحتى اليوم. فهي تتعرض للانتهاك بمختلف الذرائع الأيديولوجيّة، والدينيّة والاجتماعيّة. لذلك سعيت جاهداً لكتابة سيرة الألم، سيرة الإنسان في مواجهة الألم، وبالأخص الأم العراقية، التي تتمتع بقدرة خارقة على الصبر والمواجهة كبطلة الثلاثية، مكية الحسن”.
تبدأ الرواية بتداعي الأفكار التي يجيد الروائي صَوْغَها بلغة شعرية يحكي من خلالها ذكريات علي سلمان، في العراق. طفولته البائسة في “الصرائف” (أكواخ القصب) والتعلم في مدرسة بعيدة، وحلمه الأثير بامتلاك دراجة هوائية تختصر له المسافات الطويلة، التي يقطعها كل يوم وهو جائع، مشياً على قدميه. فقد كان يُحرم من تناول وجبة الغداء، لأنَّ موعدها يحين في الوقت الذي يكون فيه في المدرسة. فكانت أمه تكتفي طوال سنوات بتزويده بقرص من الخبز تضع عليه القليل من الدُّهْن وتَرُشُّه بالقليل من السكر.
أبوه كان يعمل عاملاً في معمل للطابوق. فلا يراه إلا قليلاً، وعمله من أشق الأعمال، وأكثرها بدائية، وسط بيئة ملوثة، وقَيْظ لا مثيل له في كل العالم.
وتتتابع الأحداث، لنجد “اللاجئ” يبحث عن الحب في سوريا، فيجده عند “خولة” اللاجئة العراقية المنتمية إلى أحد الأحزاب المعارضة. وحين يفتقدها بعد سفرها إلى بريطانيا، سيجد الحب لدى “نسرين” الشابة السورية التي عشقت غناءه، في حفلة عيد ميلاد أحد أصدقائهما. لكنه يخذلها، لأنّه متزوج من خولة التي يرغب في السفر إلى بريطانيا للقائها بالرغم من موانع السفر الكثيرة.
ترك “علي سلمان” العراق باحثاً عن الأمان، وغادر سوريا إلى بريطانيا بجواز مزور، ليحقق هدفه في الحب والحياة الكريمة، وليجتمع بمن يحب. وليس هو اللاّجِئ العراقي الوحيد الذي فعل هذا بل إنَّ هناك عراقيين كثيرين تركوا العراق، وتوجهوا إلى الأردن واليمن وليبيا والسودان. وحين اكتشفوا أنَّهم يعيشون حياة بدائية لا أمل فيها غادروها، وعادوا إلى منطلقاتهم للبحث عن دولة توفر لهم ما يصبون إليه.
بعد رحلته يحب سلمان “ساندرا” البريطانية من طرف واحد، وهي التي انتهت عذاباته على يديها بموته المبكر في غرفة بائسة من غرف اللاجئين في بريطانيا. أخيراً يموت اللاّجِئ العراقي، وهو يحلم بقضاء وقت من السعادة المفقودة مع هذه الحسناء البريطانية، لكنه لم يعش حتى يحقق هذا الحلم الأخير.
أنهى الكاتب روايتيه السابقتين “خلف السدة” و”دروب الفقدان” بموت الأب “سلمان اليونس” والأم “مكية الحسن” بعد لجوئهما من جور النظام في العراق إلى المدن. كان ذلك قبل عام 1958، فسكنا متاهات الصحراء في أكواخ الفقراء المنتشرة على مسافات شاسعة وسط المستنقعات بين بغداد وبعقوبة، ليعانيا الأمراض والفقر والجوع ولسع البعوض، وقيظ الأصياف ورياح السَّمُوم.
رواية “اللاجئ العراقي” لعبدالله صخي يوميات لاجئ لتصفية حسابه مع الماضي والحاضر، لما آلت إليه مصائر أبطاله، بين السجن والتعذيب، والهجرة والفقر، والمرض والموت.