#الخليفة العباسي المأمون

اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية
وفي سنة ١٨٣ھ ولَّاه أبوه العهد بعد أخيه الأمين، وضم إليه جعفر بن يحيى البرمكي ليدرِّبه ويثقفه، ثم ولاه خراسان وهو شاب بعدُ ليمارس الحكم ويتدرب على السياسة بمقتضى السلطة التي منحها إياها أبوه في كتاب العهد، ولما مات أبوه كان ما يزال في خراسان، فجرت بينه وبين أخيه تلك الحوادث والفتن التي فصلناها في بحثنا عن الأمين.
بعدما أصبح المأمون خليفةً للإمبراطورية العباسية بأكملها، قرر أن يبقى في ميرف، بدعم من وزيره الإيراني المخلص الفضل. ثم عقد العزم على وضع حد لانقسام العالم الإسلامي بين السنة والشيعة، فاتخذ قرارًا مذهلًا لمناصريه، ومسيئًا لمنصبه. إذ عين وريثًا له، ليس من أفراد عائلته، بل عين علي الرضا، من السلالة العلوية. وفي محاولة ظاهرة للتوفيق بين العائلتين المتنافستين، زوّج المأمون ابنته لعَلي الرضا، واعتمد علمًا أخضر بدلًا من العلم العباسي الأسود.
لكن هذا التدبير لم يحقق النتيجة المرجوة، ولم يكن كافيًا لتهدئة المتطرفين من الشيعة، ومن ناحية أخرى أثار سخط أنصار السنة، خصوصًا في العراق. إذ أعلنوا في بغداد خلع المأمون، وتعيين الأمير إبراهيم خليفةً جديدًا، وهو ابن الخليفة الثالث المهدي. عندما وصلت أنباء هذا التمرد إلى المأمون، قرر المغادرة فجأة من ميرف إلى بغداد. خلال الرحلة الطويلة، وقع حدثان مأساويان: فقد اغتِيل الوزير الفضل في فبراير 818، وتُوفي علي الرضا في أغسطس من العام نفسه بسبب مرض قصير يرى المؤرخون أنه ناتج عن التسمم. وهكذا، قُتل الرجل الذي ارتقى إلى مرتبة الوريث المفترض وأفسد حكم الخليفة، وأيضًا الوزير المرتبط ارتباطًا وثيقًا بتلك السياسة، ويرى بعض المؤرخين مسؤولية المأمون عن هاتين الحادثتين.
خلال السنوات الـ 15 التالية أظهر المأمون نفسه صاحب سيادة حكيمة، وكان يراقب وزراءه من كثب، ولم يُعين مرةً أخرى وزيرًا قويًا بصلاحيات مطلقة. حاول الحفاظ على رقابته الصارمة على حكام الولايات، لكنه اضطر للسماح بدرجة قريبة من الحكم الذاتي للجنرال السابق «الطاهر» الذي عُين حاكمًا لخراسان.
شهدت الدّولة العبّاسيّة خلال خلافة المأمون قفزة نوعيّة في العلوم الأدبيّة والشّرعيّة والكونيّة، وذلك لمدى حبّه للعلم والعلماء، فقد كان أديبًا شاعرًا وفيلسوفًا عالمًا، ونال العلماء في عهده حظوة عظيمة لديه، فكانوا بصحبته في سفره وحضره، وقد أعطى الأدب والشّعر والفلسفة والتّرجمة دفعة نوعيّة بسبب تشجيعه لكلّ من يعمل بها، وكان ذلك سببًا في رقيّها وتطوّرها، ونهضة علميّة وفكريّة وأدبيّة وصلت أصداؤها أرجاء المعمورة، لقد أرسل البعثات العلميّة إلى خارج حدود دولته للحصول على علوم الآخرين ونقلها إلى العربيّة، كما أنّه أوجد مجمعًا علميًّا في بغداد، ومرصدين فلكيين في بغداد وتدمر، وكذلك أوعز إلى العلماء برسم خريطة للأرض بسهولها وجبالها وبحارها.
محاولة فرض مذهب المعتزلة:
قرر المأمون في بداية عام 833 إلزام رعاياه باتباع عقيدة المعتزلة. ولما كان الخليفة في حملة استكشافية للبيزنطيين في منطقة طرسوس، فقد أوكل هذه المهمة إلى نائبه في بغداد، قائد الشرطة إسحاق بن ابراهيم، الذي دعا جميع القضاة لحثهم على الاعتراف بعقيدة المعتزلة. ومن ثم جاء دور الفقهاء، لكن من بينهم ثارت بعض الاحتجاجات، التي أراد الخليفة قمعها باستخدام التهديدات، ورفض بعضهم بعناد مطلق وصف القرآن بأنه مخلوق. وهو ما حدث تمامًا مع أحمد بن حنبل، مؤسس المذهب الحنبلي، الذي أُرسل تحت حراسة شديدة للمثول أمام الخليفة، لكنه نجا بسبب موت المأمون المفاجئ سنة 833 في طرسوس.
أظهرت هذه المحاكمة -المحنة كما أسماها التقليديون- أن قسمًا من الرأي العام قاوم المعتقدات التي أراد المأمون فرضها. لكن شدة هذه المقاومة تُبين لماذا تخلى الخلفاء في العقود اللاحقة عن محاولاتهم لتغيير المعتقدات الدينية، وحافظوا على العقائد التقليدية.
وفاته
مات في أرض الدولة البيزنطية غازيًا شمال طرسوس بسبب إصابته بالحمى يوم 18 رجب عام 218هـ وتولى الخلافة من بعده أخاه المعتصم الله .