التاريخ يتحدثتاريخ ومعــالم

عمر بن عبد العزيز .. الأموي الراشد

تبوَّأ الخليفة عمر بن عبد العزيز مكانة سامقة في تاريخنا الإسلامي لم ينلها إلا الأفذاذ من القادة والفاتحين، والجهابذة من أئمة العلم، والعباقرة من الكتاب والشعراء. ويزداد عجبك حين تعلم أنه احتلّ هذه المكانة بسنتين وبضعة أشهر قضاها خليفة للمسلمين، في حين قضى غيره من الخلفاء والزعماء عشرات السنين دون أن يلتفت إليهم التاريخ؛ لأن سنوات حكمهم كانت فراغًا في تاريخ أمتهم، فلم يستشعر الناس تحولا في حياتهم، ولا نهوضًا في دولتهم، ولا تحسنا في معيشتهم، ولا إحساسًا بالأمن يعمّ بلادهم.
اقرأ المزيد من صحيفة هتون الدولية

عمر بن عبد العزيز هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أُمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قُصي بن كلاب الأُمويّ، كان والدهُ عبد العزيز من خيار أُمراء بني أُميّة، وأمّا أُمّه فهي أُمُّ عاصم بنت عاصم بن عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
نشأة عمر بن عبد العزيز

وُلد عُمر بن عبد العزيز في المدينة، وكان كثير التّردُد على عبد الله بن عُمر -رضي الله عنه-؛ لمحبته له، وكثرةِ تعلّقهِ به، وكان يقولُ لأُمه أنّهُ يريدُ أن يُصبح مثل خاله عبدُ الله، وكان مولده في السّنة الواحدةِ والستين للهجرة، ونشأ في نعيمٍ ورفاهيّة، حيثُ كان أبوه أميراً على مصر، وعمه الخليفة عبد الملك، وهذا لم يمنعه من حفظه للقُرآن، وتلقّيه للعلم على يد أكابر الصّحابة الكرام؛ كعُبادة بن الصّامت، وعبد الله بن عُمر -رضي الله عنهما-. كما أنّه تلقّى العلم من كِبار التّابعين؛ كسعيد بن المُسيّب، بالإضافةِ إلى تعلّمه اللُّغة العربية، ومما زاد في استقامته ودينه تعلُّقهِ بِعمِّ أُمّه عبد الله بن عُمر -رضي الله عنه-، وذات يومٍ بعث أبوه إلى أُمّه أن تَحْضر معه إلى مصر، فلما عزمت على السّفر مع ابنها عُمر جاءها عبد الله بن عُمر -رضي الله عنه- واستأذنها في بقاء ابنها معه، فوافقت على طلبه وأبقتهُ معه، ولما وصلت إلى زوجها وأخبرتهُ بذلك سُرَّ وكتب إلى أخيه عبد الملك بن مروان ليجعل له في كُلِّ شهرٍ ألفَ دينار.

وقد نشأ عُمر في المدينة بين أخواله، وتعلّم كثيراً من الصّحابة الكرام وتأثّر بهم، فكان كثير البُكاء من خشية الله -تعالى-، وخاصّةً عند قراءتهِ للقُرآن، كما تأثّر بوالده في طلب الحديث، وكان يذهب إلى العُلماء والفُقهاء؛ ليتعلّم منهم، مما دفعهُ إلى ترك صحبة أقرانه من الشباب، وكان يُكثر الجُلوس في مجالس العلم، ولا يُهدر وقته إلا في القراءة أو الكِتابة أو المُذاكرة، مما أكسبهُ الذكاء والعلم والبصيرة والحِكمة والفقه،وكان لأُسرتهِ الفضل الكبير في تكوينِ شخصيته وعلمه، بالإضافةِ إلى إقباله على العلم مُنذُ صِغره، وتأثُّره ببيئتهِ في المدينة، حيث عاش في مُجتمعٍ يسودهُ التّقوى والصّلاح.

العدل:

إن صفة العدل من أبرز صفات عمر بن عبد العزيز القيادية على الإطلاق ولقد أجمع العلماء قاطبة على أنه -أي عمر بن عبد العزيز- من أئمة العدل، وأحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، ولعل عدل عمر من أهم أسبابه يرجع إلى إيمانه بأن العدل أحد نواميس الله في كونه ويقينه التام بأن العدل ثمرة من ثمرات الإيمان، وأنه من صفات المؤمنين المحبين لقواعد الحق وإلى إحساس عمر بوطأة الظلم للناس في خلافة من سبقه من الخلفاء والأمراء الأمويين بالإضافة إلى السبب الأهم وهو: ما أمر الله به من العدل والإحسان، وأنهما الأسس العامة لأحكام الشرائع السماوية، وما نماه الإسلام في نفس عمر، من حب للعدل وإحياء لقيمه، وإليك هذه الصور من عدله فتورد ما رواه الآجري من أن رجلاً ذمّياً من أهل حمص قدم على عمر، فقال: يا أمير المؤمنين: أسألك كتاب الله عز وجل، قال: وما ذاك، قال العباس بن الوليد بن عبد الملك: اغتصبني أرضي ـ والعباس جالس ـ فقال له: يا عباس ما تقول؟ قال: أقطعنيها يا أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله عز وجل. فقال عمر: كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد بن عبد الملك، فأردد عليه يا عباس ضيعته فردّها عليه.

ومن مواقفه العادلة ما حدّث به الحكم بن عمر الرعيني، قال: شهدت مسلمة بن عبد الملك يخاصم أهل دير إسحاق عند عمر بن عبد العزيز بالناعورة، فقال عمر لمسلمة: لا تجلس على الوسائد، وخصماؤك بين يدي، ولكن وكّل بخصومتك من شئت، وإلا فجاثي القوم بين يدي، فوكل مولى له بخصومته ـ يعني مسلمة ـ فقضى عليه بالناعورة، وهذا قليل من كثير، مما أوردته كتب السير عن عدل عمر. إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة ومحاولته العظيمة للعودة بالحياة إلى تحكيم الشريعة وآفاق الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات القرآن والسنة، ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية. وإن سيرته رضي الله عنه تمدنا بالمفهوم الصحيح لكلمة الإصلاح للمفهوم القرآني الأصيل الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهماً صحيحاً وطبّقوه تطبيقاً، سليماً، وهو نموذج إصلاحي لمن يريد السير على منهاج النبوة وعهد الخلافة الراشدة، ولقد أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي فتولى الله توفيقه وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه.

وفاته

كانت خلافة عمر كالنسيم العاطر، تنسم المسلمون هواءه الطيب ورائحته الزكية، وسرعان ما انقطع الهواء العليل، وعادت الحياة إلى ما كانت عليه قبل ولايته، غير أن أهم ما قدمه عمر هو أنه جدّد الأمل في النفوس أن بالإمكان عودة حكم الراشدين، وأن تمتلئ الأرض عدلاً وأمنًا وسماحة، وأنه يمكن أن يُقوم المعوَّج، وينصلح الفاسد، ويرد المنحرف إلى جادة الصواب، وأن تهب نسائم العدل واحترام الإنسان، إذا استشعر الحاكم مسئوليته أمام الله، وأنه مؤتمن فيما يعول ويحكم، واستعان بأهل الصلاح من ذوي الكفاءة والمقدرة. ولم تطل حياة هذا الخليفة العظيم الذي أُطلق عليه “خامس الخلفاء الراشدين”، فتوفي وهو دون الأربعين من عمره، قضى منها سنتين وبضعة أشهر في منصب الخلافة، ولقي ربه في (24 رجب 101هـ=6 من فبراير720م).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88