تشكيل وتصويرفن و ثقافة

دارين فرحات تقدم توليفة علاجية بالفن في ‘يوطوبيات’

في هذه المسيرة الإنسانية المحفوفة بالقلق والمجد والبحث عن الذات في خضم المتغيرات والتحولات المتعددة والمختلفة بقي الكائن على حلمه تجاه الفنون باعتبارها حاضنة خيال وحمالة توق وشعور نحو ما به تمضي الذات في حلها وترحالها بكثير من النظر والتأويل تجاه العناصر والأشياء تقصدا لهناءات الكينونة وريبتها وفق رغبات شتى منها الذهاب للجوهر والكنه والأساس في تفاعلات عميقة من عناوينها جماليات الالاحوال حيث التبدلات العاصفة بالأشياء والمقولات والأفكار…

من هنا كان الفن في جوهر المؤثرات والعوامل حيث الفنان ذات مؤثرة ومتأثرة في اتجاهات عدة نشدان للتعافي في واقع مثقوب ومتحول ومربك ليكون الحلم الإبداعي حاضرا في كل عملية تفكيك وتأويل وفهم لترميم ما تداعى من الأحوال والشؤون والشجون بكثير من حرقة الفن وشجن الفنان.. هي محاولات على سبيل العلاج والتصويب والتعافي تجاه أدران الوقت والوقائع والأحداث.. هي فكرة الطمأنينة المفقودة والمبحوث عنها في الفنون وبها…

وهكذا نمضي في السياق الدال على هذا وبعضه ضمن الاشتغال الجمالي لفنانة تخيرت الدرب ومضت فيه من سنوات.. درب الفن وهو ينفذ للذوات نحو تعالجها وتعافيها في طقوس من لعبة الفن وما يحف بها وفق فعل جمالي وأكاديمي ديدنه البحث.. وما الفن بالنهاية إلا هذه اللعبة الباذخة نحو التجدد والابتكار والخروج عن المألوف.

الفنانة والباحثة هنا هي دارين فرحات التي تعمل من سنوات في مبحثها الفني والجمالي والعلمي لتأخذنا إلى محطته الراهنة وحيز من المحصلة ونعني معرضها الشخصي الذي ينتظم بفضاء المعارض الفنية صوفونيبه بضاحية قرطاج وفق عنوان دال وهو “يوطوبيات علاجية”، حيث كان الافتتاح يوم 19 مايو/أيار 2023 على الساعة الرابعة مساء وبحضور نخبة من الفنانين والنقاد ورواد الفضاء، حيث تنوعت الأعمال الفنية يجمع بينها العنوان والتيمة والرغبة الجامحة من قل دارين في القول بالأشياء ومنها الفن كحالة وأداة وتعلة تقصدا لهناءات الذات حيث الكائن لا يلوي على غير القول بالسعادة المشتهاة والسلامة والبهجة العارمة في ضجيج كوني أخاذ، هي لعبة الفن ومن خلال الأعمال المعروضة بأسلوبها المخصوص في كونها تلك المحاولات بألوانها التعبيريّة تجاه دواخل وشواسع الفنان والذهاب إلى كينونته لكشف جملة أسئلة وقلق وحيرة، لأجل الحلم وتأمّلاته الجمة في ضروب من الوجد والمناجاة جوهر الروح أمام متغيرات جماليّة وذوّقية في مساحات التعاطي بالتلقي والتأويل والنّقد… لقد صار هناك توق لنظم معيارية جماليّة مختلفة تأخذ في الحسبان تعانق الفنون في وجهتها الإنسانية ولم لا القول العميق أكثر بفكرة العلاج بالفنون مثل الموسيقى والشعر والرسم والكتابة بتلويناتها الشتى…

عن هذه الرؤية والتي يتنزل في جوهر تعاطيها المعرض بصوفونيبه تقول الفنانة الباحثة دارين فرحات “لعل ما نعيشه اليوم من تحولات ضمن واقعنا المعاصر قد حرّر المثقف والرسام من الحدود الضيقة للتوصيف الأكاديمي الذي انحصر في مجال المكتسبات المعرفية والتقوقع داخل مجال المعرفة المقننة والمضبوطة وإن كان ذلك يوفر له في الكثير من الأحيان الراحة والحماية والسلطة، إلا أنه في جانب آخر يكبله بالقواعد والنظم وينفصل به عن واقع مجتمعه وتطلعاته واشكالياته، وكذلك رهاناته الذاتية والإبداعية، فما حققته الفنون من إمكانات انفتاح المجالات الإبداعية، تناصّت فيها النصوص وتداخلت فيها التخصصات تحريرا للإنسانيّ فينا ولاستعادة تصالحنا مع ذواتنا وواقعنا، تحريرا للفكر والمشاعر من تلك الضوابط المقننة”.

معرض
نماذج جاهزة

وتضيف “كما يقول نيتشه: “لنا الفن كي لا تقتلنا الحقيقة”، ويؤكّد بيكاسو في نفس السياق أهمية دور الفنون وتأثيرها في الروح بقوله “الفن ينفض عن الروح غبار الحياة”، وإذا ما تحرّر الفرد عبر آليّاته التعبيرية كلّ من مجال تخصصه أو عبر تواشج الفنون والمجالات الإبداعيّة فهو حتما سيؤثر في محيطه وبالتالي في المجتمع، فالإبداع معد مثل السعادة والفنان في بحث دائم عن سعادة منشودة وبارقة أمل، خاصة في خضم ما يعيشه عالمنا اليوم من ضغط فيصبح الفن دافعا أساسيا نحو هذا التوجه الإبداعي والتعبيري كضرورة حياتية تتجلّى في يوطوبيّات علاجية ومبحثا معاصرا أو ممارسة تعبيريّة تنمّ عن قلق وجودي يصوغه الفنان عبر طرائق وآليّات مختلفة يتداخل فيها الشعر والكتابة بالرسم وإيقاع مسرحة الجسد، فإلى أيّ مدى يمكن لهذه المقاربات أن تحقّق شفاء الرّوح عبر مسار الممارسة الإبداعيّة؟ وهل في عملية التلقي لهذه التجربة ما يمكن أن يحقق جانبا تطهيريا أو علاجيّا للآخر؟”.

وتتابع “إنّنا جميعا نعاني من الفقد بشكل من الأشكال قد يكون فقدا لذواتنا أو للجانب الإنساني فينا، في عالم متعب ومكبّل يعاني كل أشكال الرفض والإقصاء والتهميش، ولا أدّعي من خلال هذه التجربة الذاتية في معرض “يوطوبيّات علاجيّة” أنّي أقدّم نماذج جاهزة وإنّما في الحقيقة إلماحات تحفيزيّة لمسار إبداعي وتعبيري لما نطلق عليه اليوم تسمية “العلاج بالفنون” كمبحث معاصر تراجعت مكانته في البلدان العربيّة رغم أصوله المتجذّرة (منذ أرسطو ثمّ طوّره بعض الأطباء والفلاسفة العرب مثل الرازي وابن سينا) في حين قطعت الدول الغربية أشواطا هامة في ترسيخ الوعي بأهمية الممارسة الإبداعية كوسيط تعبيري إبداعي وعلاجي، فالأمزجة التي يعيشها الإنسان هي حالات إنسانية وإشكالات وجودية، شاعرا كان أو رساما، موسيقيا أو مسرحيا، كاتبا أو فيلسوفا، أكاديميا أو فطريا، متمدرسا أو عصاميا، هي أساسا لغة للتواصل، ضاربة في القدم أحاول استعادتها اليوم من خلال معرض “يوطوبيّات علاجيّة” لإحياء بعض الطرائق والمقاربات باعتماد الألوان والطروحات والآليّات التعبيرية ضمن تجربتي الإبداعيّة”.

وتلفت إلى أن “استعادة الإنسانيّ فينا وما تبقى من أمل وفرح أو نشوة وسعادة، تنبثق مما أفرزه الواقع اليوم بتسارعه التكنولوجي والتقني وما أسفر عنه تعاقب حضارات من تشيئ للإنسان، فكيف لهذه المقاربات البينية أن تؤسس لواقع بديل أو ليوطوبيّات تنشد التحرر من مكبلات الراهن؟… تجدوا في هذا المعرض تعبيرات متنوعة ومختلفة، فهي أمزجة يعيشها الفنان كما يعيشها الشاعر أو الكاتب أو الموسيقي وهي تمثلات نفسية أو شعورية لقضايا وجودية نبحث من خلالها عن ذواتنا التائهة، عن أنفسنا ضمن هذه التداعيات الخارجية، إنها محاولات تعبيرية تخاطب صخبا داخليا يعيشه الرسام، أسئلة وحيرة، تعبر عن تجربة حلم وتأمل، ومناجاة بين الروح والروح. لقد تغيرت مقاييس النظم الجمالية وآليات التذوق الفني والتلقي والنقد، حتى أصبحنا اليوم نبحث عن معايير جمالية مغايرة تتقاطع فيها النصوص وتتداخل فيها التخصصات من مختلف المجالات شعرا وموسيقى ومسرحا ورسما وأضحت فيها العملية الإبداعية ضرورة حياتية من خلال ما يمكن أن تقدمه للذات وللآخر وما يمكن أن تحققه للمجموعة فأصبحنا اليوم نتحدث عن العلاج بالفنون والموسيقى، بالشعر والرسم أو الكتابة وبالفلسفة أيضا، لذا فإن حاجة الإنسانية للتعبير هي حاجه أساسية تواصلية مثلها مثل اللغة ومثل الأكل والشرب والملبس، هي أسلوب حياة يحول الممارسة الإبداعية إلى منهج حياة وإحياء ولغة تواصل دائم إذا ما تقطّعت السّبل….”.

دارین فرحات حاصلة على شهادة الدكتوراه في اختصاص علوم وتقنیات الفنون بملاحظة مشرف جدا 2017 المعھد العالي للفنون الجمیلة بتونس، وشهادة الماجستیر في الجمالیات وتقنیات الفنون بملاحظة حسن المعھد العالي للفنون والحرف بقابس، وشهادة الأستاذیة في الفنون التشكیلیة اختصاص رسم المعھد العالي للفنون والحرف بصفاقس، وهي أستاذ متعاقد حاصلة على شهادة الدكتوراه المعھد العالي للفنون والحرف بقابس…

درست فرحات وأطرت بعدد من المؤسسات العلمية ولها مشاركات وبحوث ومعارض فنية متعددة، إلى جانب عديد المداخلات العلمیة منها مثلا مداخلة بعنوان “تثمین تدریس اللون” في مجال التصمیم ضمن ملتقى مقاربات بیداغوجیة منهجية ومهنية بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس، والمشاركة في تنظيم ومداخلة بعنوان “رباعیات في زمن الجائحة” ضمن ملتقى فناني القصبة بإسبانیا في دورتها الافتراضیة، ومداخلة بعنوان “إشكالیة المكان وخصوصیة الممارسة الفنیة” ضمن الندوة العلمیة في موضع الفن المكان المأوى، ومداخلة بعنوان “دور الملتقیات والمهرجانات في الارتقاء بالفنون التشكیلیة ومسارات الإبداع” ضمن الملتقى التشكیلي الدولي “نوافذ 12” طسب ات المملكة المغربیة، وملتقى سجلات اللون بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس، ومداخلة بعنوان

 Perception de couleurs: une perception culturelle dans les pratique artistiques de l’art naif –  تقدیم دراسة مشروع عمل فني  “artistique trajectoire” ضمن جائزة  “Saima”للإبداع المعاصر العربي، ومداخلة بعنوان “الفن والمكان: أزمة التواصل ورھانات الفن المعاصر” ضمن ملتقى الفن والمكان “الإشكالیات والرھانات” المعھد العالي للفنون والحرف بقابس…

ودارین عضو بالجمعیة الأكاديمیة الأمیركیة للفنون وبالمركز الدولي لرواد الفن التشكیلي، كما كان لها حضور وأنشطة بالملتقیات والمعارض الشخصیة ومنها معرض شخصي بعنوان “حدیث الروح” بفضاء المعھد العالي للفنون والحرف من 3 إلى 10 فبراير/شباط، ومعرض شخصي بعنوان “tart eeM” بفضاء القطب الصناعي والتكنولوجي بقابس من 6 إلى 10 أكتوبر/تشرين الأول، وقد تم اقتناء مجموعة من الأعمال من طرف القطب للتشجیع على البحث والممارسة التشكیلیة، ومعرض شخصي بعنوان”mers des delà uA”  بالرواق السیاحي المتوسطي حومة السوق جربة، ومعرض شخصي بفضاء المركز الطبي “قزبار” بعنوان “science- y -Art” وقد تم اقتناء مجموعة من اللوحات لصالح المركز، ومعرض شخصي بفضاء جامعة قابس بعنوان “city In” وتتوج باقتناء مجموعة من اللوحات.

وعن المشاركة في الملتقیات والمعارض الجماعیة المحلیة الوطنیة والدولية، فإن دارين شاركت في ملتقى شادو الدولي السادس للفنون التشكیلیة المقام برواق الإسكندریة، إلى جانب إدارة وتقدیم ملتقیات افتراضیة ضمن حلقات موائد الشعر والأدب والجمالیات بتأطیر المنظمة الدولیة للثقافة والتنمیة وحوار الحضارات والمجمع الدولي للآداب والفنون البصریة بباریس، والمشاركة في مشروع تشكیلي دولي ضمن”monde nouveau du art l”، ومقر تجمعه بفرنسا “Aubusson” في 9 أكتوبر/تشرين الأول، ثم تحول ھذا المشروع الجماعي للعرض حول العالم وانطلق بداكار في 4 يناير/كانون الثاني ویزور تونس في مارس/آذار بمدینة الثقافة، والمشاركة في ملتقى دولي ضمن فناني القصبة بإسبانیا دورة افتراضیة، والمشاركة في المعرض السنوي لاتحاد الفنانین التشكیلیین التونسیین، وفي المعرض السنوي “لجمعیة رقش” تنسیقیة قابس في 2 مارس/آذار بالمركب الثقافي قابس، والمشاركة في التظاهرة السادسة الدولیة الذاكرة والإدراك لجمعیة فنانات مغربیات خلال 3 أیام ووقع عرض الأعمال بفضاء “carthage de sophonisbe”، والمشاركة في المعرض السنوي للأساتذة بالمعهد العالي للفنون والحرف بقابس الدورة 61 “بصمات إبداعیة” من إدارة وتنظیم الفنون التشكیلیة ضمن مهرجان الاتحاد العام التونسي للشغل والإبداع أیام 3-4 و5 سبتمبر/أيلول بشارع الجمهورية قابس، والمساهمة في إنجاح فعالیات المهرجان

الدولي للفنون التشكیلیة في دورتها الأولى ” قابس ترسم” بساحة الكرنیش قابس أیام 24-25 و26أبريل/نيسان، فضلا عن المشاركة بمعرض الفنانات المغاربیات بتونس تحت عنوان “féminine Expression”، والمشاركة في جداریة جماعیة بتونس بفضاء الرازي ضمن النشاط التابع لجمعیة فنانات مغاربیات في نفس الحدث الممتد على أربعة أیام، والمشاركة في تظاهرة ثقافیة في الرسم مع مجموعة فرنسیة بدار الثقافة بقابس…

تجربة متواصلة نحتتها دارين الفنانة الباحثة برغبة وحب ودأب حيث الفن والرسم تحديدا ولديها مجال حياة قولا بالذات في اعتمالات دواخلها وهواجسها الدفينة تجاه العالم والآخرين.. الفن إبداع وعلاج وحياة عالية الإحساس في زحمة الضجيج والسقوط والتداعيات المربكة.. معرض صوفونيبة بضاحية قرطاج يبرز شيئا من كل هذا.. من عوالم واشتغالات دارين الفنانة الطفلة الحالمة بعالم أجمل وأرحب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى