تشكيل وتصويرفن و ثقافة

المفهوم والهوية في مدارات النحت المعاصر

منذ جذوره التكوينية الأولى ارتبط فن النحت بالذات البشرية والتشخيص والتصور الماورائي للكون والطبيعة والفلسفة والمثالية، والرؤى البصرية، للانعطاف نحو قالب، يصير النحات فيه متعدد الوظائف حسب الفكرة ومداها من التذكاري إلى الميثولوجي والتوثيقي والتشخيصي، والعديد من المواضيع التعبيرية التي تلازمت مع الكيان الإنساني ومداه الوجودي.

حيث ارتكل الإبداع البصري النحتي على فهم مكين لطرق تناول الوسائط، والفطنة التشكيلية لما تكتنزه من قيم جمالية وتعبيرية لتأطير تفكير الفنان، والدفع بالقدرات الكامنة لاستجلاء المعنى وتأويله في مسلك هم الفنان بالصدق الإبداعي دون الاتباعيات النمطية، والنسخ التكراري والجمال البسيط المسطح.

«نبيل نجدي» تحول المفهوم

والرسائل العاطفية المفاهيمية

ويمثل الفنان أحد أصحاب القيم المضافة والأطروحات الفنية ذات الجوانب التنويرية الحداثية، أحد أبرز النحاتين والفنانين التشكيليين السعوديين ذي الحضور الفاعل في المحتفيات الفنية كسفير للفن داخل وخارج المملكة، بتراكيب الخامات ومعارفه ذات الصور الأثيرية المحلقة ثلاثية الأبعاد بخامات الحجر والرخام والمعادن والخشب واللدائن والشرائح اللامعة وكافة الوسائط القابلة للنحت والتشكيل. لتتشكل رؤية «نبيل النجدي» ومنهجه الفني الخاص منطلقاً من تجريدية يغلفها تلميحات ترميزية تسطر عما يجول بمخيلته الإبداعية لإعلاء معادلات بصرية بالخطوط العربية كعلامات دالة تتجاوز المظهر الخارجي الذي يدرك بالعين المجردة، ليبدو وكأنه صورة للفضائل التي تحملها روح الفنان، من مبعث جمال باطني ومعراج يصل بالنفس لحقيقة الجمال وفلسفته، فالخط العربي عنصر بصري، يمتلك صفات كامنة تتجلي في قدرة التعبير عن الحركة والكتلة والتركيب والحركة الروحية والتناسق.

فطوع «نبيل نجدي» خطوطه العربية عبر خامات مثل خامة الحديد الصلب والصاج والنحاس بحرفية مكينة تحاكي مرونة وانسيابية الحرف العربي، ليمثل الخط العربي في أعماله وحدة دالة (علامة–شكلانية) ذات قيمة جمالية، معبأة بالدلالات الرمزية التلخيصية من منظومته التعبيرية الرسومية، ليتجاوز الخط العربي اللغة والشكلانية والوظيفه الكتابية فقط.

وفي عدد من مجسماته النحتية اكتشف فيها «النجدي» علاقة شكلية بين الأنابيب المصنوعة من الحديد وصفائح المعدن وشرائط النحاس، والتي يشكلهما في انسيابية وليونة لدعم أفكاره الإبداعية، وإعلاء من قيمة الكتلة كمحرك فاعل، وتغليفها بالديناميكية التي تنحو بعيداً عن المعاني المقروءة، وتوليد الحوارية العاطفية، وعكس القدرة على ترجمة وتسطير المفهوم من خلال تحكم أدائي بتراكيب معدنية تنويرية ذات هيئات شكلية حداثية.

«محمد إسحق» خصوصية المفهوم

وحيوية المجسم الفراغي

تأثر الفنان «محمد إسحق» بدراسة فنون الحضارات القديمة، خاصة المصرية القديمة والفنون القبطية والإسلامية، حيث أجرى العديد من البحوث والدراسات حول ماهية المفهوم الجمالي لتناول الخامة في النحت الحديث وأثرها على القيم التشكيلية والتعبيرية، لتمثل خلفية ثقافية في فكر النحات في التعامل مع الاتجاهات والمفاهيم الفنية الحديثة، وتدشين رؤية فنية فلسفية مصرية خاصة.

لذا وعبر النحو في تجاربه النحتية عن التقليد المنمط بصرياً، لصالح نحت الفكرة والتوليف والتجريب والمتابعة وإعلاء الخصوصية والهوية، فامتازت مجسمات «محمد إسحق» الفراغية بحيوية الأسطح والكتل، والقيم الملمسية واللونية، وأسطح المجسمات وملامسها وألوانها، متجاوبة مع نغمات لونية ديناميكية منبسطة في حركتها وتطبيقها، وتعدد المستويات والفعل الحركي من خلال استلهام مفردات ذات هوية مصرية وخصوصية انحيازية تمثل تصور النحات وفلسفته حول الموجودات في أطروحات حداثية، في حيز فراغي يتحقق فيه الجمال والفلسفة، اتساقاً والمقومات الحضارية للعصر الراهن.

وابتداء من الفكرة التي تنبثق في ذهنية الفنان حتى تشخيصها في عالم الواقع المادي وغير المادي وعلاقتها بالبعد الجمالي الفلسفي، ومفهوم الشكل النحتي وبنائه، يتجه «محمد إسحق» لمحاولات تسطير المعادلات الشكلية لقضايا ومفاهيم فكرية فلسفية، لتفيض رسائله بالوجدانيات انطلاقاً من قوة داخلية تروم للفنان لتبليغها عبر رؤية نحتية لمفهوم الشكل، والبعد عن التشيؤ والميتافيزيقية التي تقف عند تخوم التسجيل المرئي لصالح تدشين التأثير العاطفي، وترسيخ الأفكار وفق علاقات جمالية، والتعبير عن المضامين الإنسانية.

ففي قدرة بالغة تمايز أسلوب الفنان بالقدرة على التجريب وتطويع كافة المواد مثل: «النحاس، البرونز، الحديد، الرخام، الجرانيت، البازلت»، وإبراز الجمال الكامن بها، والإفصاح عن رؤيته لجماليات تلك الخامات بصورة مغايرة، لتصطبغ منحوتاته بالحيوية، لتشكيل مجسات حداثية تحفز حالة المتلقي النفسية، وتشكل المحسوس الجمالي لبلورة الفكرة.

روح الشخصية ونحت الفكرة لدى «طارق الكومي»

ونحو استحضار الشعور والاختزال، والاستلال من جراب الذاكرة البصرية لتدشين معمارية عناصر بانورامية نابضة، وتشخيص المفاهيم غير الملموسة، منح «الكومي» خياله قدراً من المناورة الإبداعية، للقفز من الحقائق المسطحة للحقائق الاختزالية ذات الدلالة، لتشكل تجاربه منهجاً فكرياً وخصوصية تعبيرية تثري الاتجاه النحتي المعاصر بتراكيب تقدمية تنويرية تحتفي بالكتلة، داخل ثلاثية (الإفصاح، وهيبة الحضور، والتجلي) خلال استحضار شروط الوجود للمنحوتة داخل سياقات تقلع عن الثابت المسجي.

فاصطبغت مجسمات «الكومي» بتلخيص إنساني لا ذهني في حوارية تؤسس ديناميكية وراديكالية كتلية ذات أبعاد خاصة لا تكتفي بمجرد التسجيل المرئي لكينونات المحيط، والطرق التقليدية لسرد الارتباطية بالطبيعة لصالح الوصول إلى المنتهى، (وتفعيل الحسي الوجداني وليس البصري ذي النسخ السطحي لمرئيات الطبيعة)، وطاقات تحفز العواطف الوجدانية وطرق التلقي للجمهور واجتياح مشاعرهم عبر مواءمة الخامات للتفسير الذهني دون رابط محدد وتعزيز التفسيرات الروحانية، وما يتسق مع ذلك من الجوانب التقنية والجمالية لضمان الحضور الموضوعي والفكري.

وفي خضم التمايز الراديكالي، والرنو عن النحت الذهني الذي يحاكي بتطابق كلاسيكي فكرة الجمال، وتجاوز ذلك للصوغ بوسائط تشحذ مفهوم نحت الفكرة وتلخيص بليغ لروح الشخصية والنسقية التي وسمت منحوتاته (بالشخوص المنتصبة)، عزز «الكومي» مجسمات تجريدية خالصة يتشكل منطقها من قيمة الكتلة كمحرك فاعل يدشن الحوارية ويولد حالة إبداعية نشطة تستحدث حلول الكتلة عبر تأمل صوفي يتلمس استنتاجات بصرية لا تصل الذهنية إليها، متكأ على التبسيط والتلخيص الكتلي لمفرداته البصرية، لتتعمق الدلالات ما بين التأويل والتلغيز المشفر بعيداً عن السطحية التي يتفهمها المتلقي في أول تماس.

«محمد الثقفي» وتكثيف المحتوى الفكري للمنحوتات

ولد النحات «محمد الثقفي» في الطائف، مما كان له كبير الأثر في تشكيل شخصية الفنان، ليمثل أحد أهم الأيقونيين البارزين بين نحاتي العالم العربي، وشارك ضمن برامج بلدية النماص هذا الصيف بالشراكة مع نادي عناقيد للفنون البصرية، عبر تظاهرة تهدف لتعزيز الجانب الفني ورفع الذائقة الفنية لدى المتلقي، بمنحوتات تحاكي البيئة والتراث في الميادين العامة والمنطقة المفتوحة في مطل النماص، حيث هدفت منحوتاته إلى تعريف المجتمع بفنون النحت ودعم الحركة الثقافية وتجميل الميادين والحدائق.

وباعتبار أن فعل الإبداع هو فعل أيدولوجي لا مادي، وفي مدار النحو عن الصخب وإرهاق الكتلة، والتمثيل القوي للحقيقة لصالح تكثيف المحتوى الفكري والوجود الحسي داخل وعي المتلقي، واستثارة الجوانب الفكرية والتأملية الصوفية لديه، ابتدع «الثقفي» خطاباً فنياً موسوماً أثيرياً يتمحور تركيبه حول اختزال الزوائد، وإظهار المعبر الموجز دون مجاهرة فجة، عبر بنائيات تجريدية تستنطق الكتلة وتعضد حضورها، وتتكثف فيها الاستدارات والتقويسات والليونة التي خففت من ثقل الكتلة، لتتعاظم التأثيرات العاطفية لمنحوتاته، ونبضها بهمس وروح خاصة.

حيث ترثي مجسمات «الثقفي» لغة تحتفي بقيمة التنظيم الفراغي، وقيمة اللون وتحفز مفهومية النحت الميداني، كمجسمات معدنية تنحو عن المباشرة، وتكثف المعاني الفكرية المحملة بسمات، يستطيع المتلقي أن يستنشقها عبر طرحه الفني، لتحقيق الفكرة المجردة وتجسيد الانفعال الوجداني، عبر طاقة روحانية تغلفها أسطورة حالمة، وتعززها تقنيات وخبرات الفنان في المزج بين القصدي التقني، والعفوي المندفع من الشخصية وداخلها الجواني لتعزيز رؤية الفنان.

«المضغوطات» والهيئات الشكلية

المستحدثة لدى «صديق واصل»

شكلت المستهلكات البيئية readymade object، واكتشاف القيم الفنية والتشكيلية والملمسية لها، أحد المدخلات الحداثية لتوظيفها كأداة للتعبير الفني تعدد الأساليب والرؤى الجديدة في استخدام الخامات المستهلكة، وهو ما دشنه وأسس له النحات «صديق واصل» من عوالم خاصة نسجها من عالم المستهلكات والعناصر سابقة التجهيز، من خلال تشكيلها بفعل التجريد بشكل مطلق يؤطر المشاعر والأحاسيس، وتغليفها برسائل عاطفية ترميزية مفاهيمية تتسق مع طبيعة «عصر الآلة والصناعة» وطبيعته لخامات ذات دلالة رمزية واضحة تثري مجال التعبير.

وبغرض تلمس حلول ومعالجات تفصح عن آفاق جديدة للتعبير اتجه «صديق واصل» لاستخدام المطارق الآلية والمكابس التي تستخدم للتخلص من النفايات المعدنية والخردة، لصياغة وتشكيل عدد من أعماله الفنية، وهي تقنية صناعية تستخدم في تلك الساحات والأفنية الضخمة التي تجمع فيها بقايا المعادن الخردة، والتي يطلق عليها مصطلح «المضغوطات Compressions»، حيث اعتمد «صديق واصل» على ثني ولي وتهشيم تلك النفايات المتنوعة وتضمينها مع خامات معدنية سابقه التصنيع، مع الجمع بين خامات باهتة، وخامات براقة متوهجة، وذلك في هيئات تزخر بتنوعات شكلية وجمالية عديدة، وتلعب فيها ألوان تلك العناصر المعدنية دوراً مهماً معززاً لرسالة العمل الفني ومضمونه.

فتحولت تلك الخامات المعدنية بفعل الكبس الهيدروليكي من جملة أشياء لها وظائف ودلالات بصرية محددة إلى هيئة شكلية جديدة ذات إيحاءات جمالية تخالف أصلها وتقوم بوظائف أخرى، لتصطبغ مجسمات «صديق واصل» بطاقة تعبيرية، وأسلوبية تمزج التجريدية والتعبيرية، وتختار مادتها من بقايا الأدوات، وأكوام مهملات المعادن الصدأة بفعل الزمن، مع استخدام تقنيات لصق وتثبيت خاصة غير تقليدية مثل لهب الأكسجين، ولحام الكهرباء للتثبيت.

«العنود الشيبي» والمنحوتات التعبيرية وليدة الفكرة

لم تحاول الفنانة «العنود الشيبي» تلوين خاماتها بدرجات لونية أو تصبيغها، لصالح السماح للون الأبيض الذي تحتفظ خامة البرونز لشخوصها أن تنتقل من الحالة الآدمية إلى حالة شبحية، لتظهر تلك الشخوص وكأنها أشباح هائمة تتحرك في محيط غريب الأطوار، فلم تكن شخوص «الفنانة» المنحوتة تنفذ بدقة النحات الماهر في العصور السابقة والارتكال إلى قواعد النسب الكلاسيكية المتعارف عليها، بل هي شخوص وليدة فكرة وقذف ذهني للفنان تتحرك وفق فلسفة مفهومية، لتجسيد شخوص دفعت بها الفنانة إلى عالم غريب تبدو فيه قريبة إلى فن التصوير أكثر من فن النحت، وتقع في حيز تخيلي شبيه بالصندوق، إنها شخوص سابحة تبدو أكثر حياة ودأباً ونشاطاً من الشخوص الحقيقية الممتزجة معها داخل العمل.

حيث تمتلك شخوص «العنود الشيبي» العديد من الإيماءات والحركات التعبيرية والأوضاع والمواقف، فهي نوع من الاختيار، ثم تجميد هذه الإيماءات المعبرة عند حالات وفقت إليها بغرض الكشف عن الأحاسيس الغيبية ومحاولة الإمساك بالموضوعات الجذابة، مع الاتكاء على الروح الإنسانية التي دشنت داخل العمل لإحراز الفاعلية الكاملة.

الأستاذ المساعد بكلية التصاميم والفنون – جامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى