الفنون والإعلامفن و ثقافة

تكريم مقام البورتريه في زمن تهميش الملامح الإنسانية

يأتي فن البورتريه وتصوير الطبيعة الصامتة ليحدث عودة قسرية نحو الإنسان والتحولات التي يواجهها الإنسان المعاصر وتحمله نحو كل ما هو غير بشري، وهو ما يعبر عنه معرض “غاليري أيام” الذي خصّصته لفن البورتريه، ذاك الذي ركز فنانوه على الأزمات المعاصرة.

لم يعد من العجيب القول إننا في عصر الديجيتال حيث نشأت علاقة مُلتبسة ما بين البشر والشاشات الإلكترونية وملحقاتها من منصات وتطبيقات تفاعلية. ومؤخرا بدأ يلمع نجم الذكاء الاصطناعي ليكتسي يوما بعد يوم ملامح بشرية مُخادعة. كما لم يعد من الغريب رؤية الحماس الذي يدفع عامة البشر تجاهه، خاصة من هم غير معنيين بأحداث وتطوير العوالم الافتراضية، بسذاجة غير مسبوقة لا تقيم وزنا لمُساءلات جوهرية نحن بأشد الحاجة إليها.

ولكن من الغريب المُبهج أن تقوم صالة بأهمية “غاليري أيام” بتنظيم معرض جماعي كبير جمعت فيه لوحات موضوعها البورتريه تحديدا. الأمر يشبه بعض الشيء استغراب الكثير من متذوقي الفن سابقا حيال معارض تناولت الطبيعة الصامتة، كباقة ورد في إناء على طاولة أو صحن فاكهة قرب قنديل يجاور صحنا فارغا، في زمن تدحرجت فيه الرؤوس وكثرت فيه الحروب الدامية.

غير أن إطالة النظرة في المعارض التي تناولت الطبيعة الصامتة آنذاك وأيضا في معرض “غاليري أيام” الذي خصصته اليوم للبورتريه تجعلنا نتأكد بأن الطبيعة الصامتة في عزّ الأزمات تكتسب معاني مختلفة مثلها مثل لوحات البورتريه التي ينجزها فنانون معاصرون ساهمت صالة “أيام” في إطلاق شهرة بعضهم عالميا.

المشاركون في هذا المعرض هم الفنان خالد تكريتي والفنان إلياس إيزولي والفنان قيس سلمان والفنان صفوان داحول والفنان صادق الفراجي والفنان نهاد الترك والفنان الإيراني أفشين بيرهاشيمي. وتحمل لوحات الطبيعة الصامتة المختلفة والمنجزة في زمن الأهوال معاني لا تمتّ كما في العصور السابقة إلى فكرة الوفرة أو إلى فكرة هشاشة الحياة الدنيا بأسلوب تغلبه الشعرية المفرطة.

في هذا السياق نأتي على ذكر، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بعض من أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي المأساوية التي أنجزها بالأسود والأبيض وتحديدا تلك التي يرسم فيها سمكة واحدة أو أكثر، وسكينا، ووردة، وعظمة.

أما لوحات البورتريه المنفذة بأساليب فنية مختلفة في صالة “أيام” فهي تنتمي إلى خارج التعريف البصري عن الشخصية المرسومة. إضافة إلى أنها تشير في ملامح شخوصها إلى أزمات عصرها، وهي كثيرة. ومن ناحية ثانية يُفيد جدا أن ننظر إلى اللوحات المعروضة مجتمعة ككُل كي يكتسب المعرض أهمية أكبر تشير إلى مدى التصدع الذي وصل إليه الإنسان المعاصر وبداية تحولاته إلى ما هو غير بشري.

في المعرض عدة لوحات رائعة للفنان إلياس إيزولي حيث يجسد شخوصا تنتمي إلى سأم عميق الذي، ظاهرا، لا يبدو له سبب مباشر، وينتمي أيضا إلى زمن الصبا المُنسلخ عن محيطه المجتمعيّ والغارق في حزن وجودي مُبكر.

يُذكر أن الفنان إلياس إزولي قدم سنة 2016 معرضا مفصليا إذ يشير إلى منطقه الفني الخاص وإلى الأفكار التي ينشغل بها عادة. أطلق يومها على معرضه عنوان “تواصل” حاكى فيه بشكل مباشر لوحات الفنان التشكيلي الرائد لؤي كيالي ولكن من منظور معاصر استبدل فيه انشغالات شخوصه وأشياءها بأيقونات معاصرة لها علاقة بتكنولوجيا التواصل وبالعولمة التي تسوّق لأفكارها وأهدافها عبر تصديرها لبضائعها وخاصة إلى الدول النامية وما يسمى بدول العالم الثالث.

في المعرض أيضا لوحات للفنان الإيراني أفشين بيرهاشيمي الذي تبدو لوحاته كأنها في المقلب الآخر للوحات إلياس إيزولي أو نتيجة لسياقها النفسي الطبيعي. لوحات تنتمي إلى أجواء عالم الإعلام والإعلان حيث يظهر البشري كنسخ ممسوخة عن الأصل تارة وشبحية تارة أخرى ملطخة بأسود يحيلنا إلى الحبر ليس حينما يُستخدم في إنجاز الرسومات، بل عندما يتبعثر مهروقا على مساحات ورق اتعبته مساماته العميقة.

وفي المعرض لوحات تحمل إمضاء الفنان صادق الفراجي وقد اختار منها منسقو المعرض ما يحيلنا إلى عالم الوشم المنتمي بشدة إلى عالم الذكرى الذي سكن ولا يزال روح الفنان العراقي المنفيّ عن عراق التمر المشبع بالوفرة وطعم العائلة وعطره. وتكاد شخوص بورتريهات الفنان قيس سلمان الرائعة التي تغوص في توحش الإنسان أن تقف في المرحلة الزمنية/الإنسانية التي تؤسس للإنسان الجديد بداية بشخوص الفنان الإيراني أفشين بيرهاشيمي وما سيأتي بعده من كائنات ديجيتالية تخلت عن إنسانيتها، وكفى.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى