تشكيل وتصويرفن و ثقافة

الراسخ والعابر في لوحات الفنان التشكيلي معتز نعيم

متأرجحا بين المكان والزمان، الحاضر والذكرى، يصور معتز نعيم فلسطين ومدنها كما تبدو بمشاهدها المفتوحة وواقعها المأزوم، منوعا في أساليبه الفنية وخائضا رحلة التجريب في كل المدارس التشكيلية، دون التخلي عن هويته الفنية التي تدور في فلك الوطن.

قدمت مؤسسة “المعمل” الثقافية في مدينة القدس منذ شهر يونيو الماضي معرضا فنيا كبيرا تحت عنوان “الهدية”. ضم المعرض الذي تحتضنه مؤسسة ناشطة جدا على المستوى الثقافي والاجتماعي مجموعة كبيرة من الفنانين الفلسطينيين، ومن بينهم الفنان التشكيلي معتز نعيم، فنان قدم خلال سيرته الفنية مجموعة كبيرة من اللوحات دارت كلها ولا تزال في فلك وطنه فلسطين.

اختارت مؤسسة “المعمل” الثقافية لوحة من لوحات الفنان معتز نعيم كي تعرضها من ضمن المعرض المشترك الضخم الذي حمل عنوان “الهدية”، وهي لوحة تجسد مشهدا مفتوحا لمدينة القدس.

كما أن للفنان لوحات عديدة تتناول القدس وضواحيها من زوايا مختلفة إضافة إلى أعمال فنية أخرى تناولت نابلس وغزة. غير أنه من نافلة القول إن فنانا تشكيليا كمعتز نعيم يصعب اختيار لوحة واحدة من أعماله قادرة على أن تظهر السياق الفني العام الذي يعتمده الفنان في إنجاز أعماله. وقد جرت العادة، لاسيما في المعارض الجماعية الكبرى، أن يتم اختيار اللوحات الأكثر إشارة إلى أسلوب الفنان لتكون بمثابة شبه تعريف بصري عن هويته الفنية.

من الصعب أن ينطبق ذلك على أعمال الفنان معتز نعيم الذي ينجز في فترات زمنية متقاربة لوحات لا يعرف التعبير الفني فيها معنى الاستقرار. يبقى الجوهر واحدا: فلسطين ومشاهدها وبحرها وقراها ومدنها وحقول برتقالها وزيتونها وسروها ونخلها وناسها – مع العلم أن أعماله التي لا تظهر فيها الشخوص هي الأقوى تعبيريا – أما الأساليب الفنية المتعددة فتعبر لوحاته كما تعبر الغيوم البيضاء سماء فصل الصيف، بخفة وسرعة.

تتراوح أعماله الفنية ما بين التعبيري والتجريدي والتشكيلي والانطباعي والوحشي، وحتى الاختزالي الذي يقارب فن الغرافيكس كما في اللوحات التي تظهر فيها أشجار مُبسّطة ذات ألوان قوية وخطوط تأخذ المُشاهد إلى فن الغرافيكس المعاصر أكثر من إحالتها إلى المشاهد الطبيعية. يكفي المرور على لوحاته التي أنجزها منذ سنة 2022 إلى اليوم كي ندرك التنوع الكبير في الأساليب وفي تبدل مزاج الفنان على السواء في كل لوحة جاءت تختلف عن غيرها من اللوحات. وعلى الرغم من هذا التنوع استطاع الفنان أن يحدد نهجا بصريا واحدا يحمل إمضاءه.

التنوع والعبور عند معتزّ نعيم، صفة. وهو المكان “الرخوي” إذا صح التعبير، الذي يستكين إليه. يرسم تارة لوحات بالأسود والأبيض، وتارة أخرى لوحات تتميز بغنى لونيّ واضح. ويرسم أحيانا مستخدما ألوان الأكريليك وأحيانا أخرى الألوان الزيتية. وكل من كانت له تجربة في المادتين أو هو تخرج من أقسام الفنون الجميلة في الجامعات يدرك الفرق الشاسع ما بين المادتين ونوعية الأداء الفني الذي يقدمانه للفنان.

الأهم من ذلك أنه غالبا ما تختلف شخصية الفنان المُستخدم للألوان الزيتية عن الذي يرسم بألوان الأكريليك. وما من فنان، إلا ربما نادرا جدا، إلا وبرع في استخدامه مادة على حساب المادة الأخرى وإن بلغت تجربته في استخدام المادتين زمنا طويلا. غير أن ما ذكرناه للتو لا ينطبق على الفنان معتز نعيم. فلوحاته المشغولة بالألوان الزيتية هي بنفس أهمية تلك التي نفذها بألوان الأكريليك. هذا التنوع والتأرجح ما بين مادة وأخرى وما بين أسلوب فني وآخر يُمكن أن يضيء عليه أسلوب حياة الفنان الذي عاش ويعيش ما بين فلسطين الذاكرة – كما فناني الشتات الذين هجروا من فلسطين أو الذين ولدوا خارجها – وفلسطين الطبيعة والمشاهد المفتوحة البعيدة عن المدن، وفي مدن الواقع المتأزم والترقّب المستمر: غزة ونابلس والقدس، وفي مخيّم اللجوء حيث ولد على حد سواء.

والمميز في مجمل أعمال هذا الفنان أن ثمة صفة مشتركة بين جميع لوحاته المبنية على الحاضر أو الذكرى أو تلك المُطعّمة بخيال يستطرد في الإكثار من نشر الضباب والغموض في أجواء مشاهد طبيعية لم يخسر فيها اللون قيمته النوعية. هذه الصفة هي أن “المكان” في كل أعماله أو في أكثريتها الساحقة حتى لا نكون في فلك المبالغة، قد اكتسب صفة الذكرى، مُهددا كان بالزوال بسبب عمليات الهدم والاستيطان وإحراق الحقول، أو لم يكن. انتماء الفنان هو لحالة الذكرى غير المرتبطة بزمن محدد. هكذا يكون الفنان رحالا شبيها بطائر الهدهد الذي يستطيع أن يحلّق فوق الحاضر والماضي والخيالي في رحلة واحدة.

فالهدهد الذي رسمه يوما في أروع لوحاته حتى الآن، وضعه يرنو على غصن شجرة وحيدا في فراغ مشحون بالطاقة ومدموغ برقع من نور عميق بلغ في مواضع من اللوحة، الحمرة القانية. هدهد معتز نعيم يقول في لوحاته كما تقول الطيور في إحدى قصائد الشاعر محمود درويش موجهة كلامها إلى الهدهد “كم قلنا لأشجار المكان تجرَّدي من زينَةِ الغزوات كي نجد المكان/واللامكانُ هو المكانُ وقد نأى في الروح عن تاريخهِ/منفىً هِيَ الروحُ التي تنأى بنا عن أرضنا نحو الحبيبْ/منفى هي الأرضُ التي تنأى بنا عن روحنا نحو الغريبْ/وإلى متى سنطير؟ قال الهدهدُ السكرانُ: غايتُنَا المدى/قلنا: وماذا خلْفَه؟ قال المدى خلفَ المدى خلف المدى”.

يُذكر أن الفنان معتز نعيم فنّان تشكيليّ فلسطينيّ من مواليد دمشق عام 1973 في مخيم اليرموك. يقيم في مدينة بيت حانون، شمال قطاع غزّة. حاصل على درجة البكالوريوس في الفنون الجميلة في جامعة دمشق – سوريا عام 1997، وهو عضو الاتّحاد العامّ للفنّانين التشكيليّين الفلسطينيّين، ومحاضر جامعيّ في قسم الفنون في كليّة العلوم والتكنولوجيا – خان يونس، ومتفرّغ للعمل التشكيليّ. شارك في معارض جماعية كثيرة كما له معارض فردية داخل فلسطين وخارجها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى