تشكيل وتصويرفن و ثقافة

كيف نقرأ الأعمال الفنية ونميز بين ما هو فن وما هو ليس بفن

منذ قرون والفلسفة تدرس الفن وتريد الإمساك بناصيته، بينما ما انفك هو يتطور ويطور أساليبه ويخلق مدارس وتيارات جديدة متمردة في كل مرة، لكن هذا لم يمنع الفلاسفة والمنظرين من محاولة الفصل بين الفن وما ليس فنا، وهي خطوة مطلوبة اليوم بشكل كبير في ظل الفوضى المعيارية التي طالت الفن.

منذ العصور القديمة، يمثل الفن مادة خاما للتغيير والتعبير، فهو وسيلة فعالة ومؤثرة لقصف المشاعر والأفكار والأفعال، ويحتل مكانة مرموقة في الفلسفة والأدب والعلوم، ويؤدي دورا هاما داخل المجتمعات، ومهما في حياة الأفراد.

وقد اشتهر تاريخ الفن بدراسة العمل الفني، خلال تطوره التاريخي، وسياقه الأسلوبي، واختلف فيه المتذوقون والنقاد والمؤرخون الأكاديميون، إذ لكل منهم نظرية في الفن والجمال.

والموضوع الذي بين أيدينا يندرج ضمن السياق نفسه، إذ يسلط الضوء على الفرق بين الفن وما ليس بفن، عن طريق أسئلة الأصل: فما هو الفن؟ وبماذا يكون فنا؟ وكيف يظهر شكله داخل المجتمع؟ ومن أين يأتي العمل الفني بفنه؟ وكيف يميز الإنسان العادي الفن وما ليس بفن؟

الفن والفنان والمجتمع
يشير مفهوم الفن بالمعنى العام في المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة إلى “جملة من القواعد التي يحصل باتباعها تحقيق غاية، وبالتالي يكون الفن هو المقابل للعلم، حيث العلم نظري وغايته تحصيل الحقيقة، والفن عملي وغايته تحقيق الجمال، والعالم ملكته العقل والبرهان، أما الفنان فملكته الذوق والحس الفني”. ويحمل هذا المفهوم في طياته مجموعة من المفاهيم في غاية الأهمية فإذا كانت غاية الفن تحقيق الجمال، فما معنى الجمال؟ وما علاقته بالفن؟

اهتمت فلسفة الفن منذ بدايتها بتوضيح المعاني المقصودة في الفن، مثل التعبير والشكل والمعنى والرمز والصورة والتجريد والجميل، من ناحية فلسفية، حيث يشرح الفيلسوف متى يكون العمل الفني جميلا.

أما الناقد الفني فإنه يقضي بأن هذا العمل جميل أو قبيح، وهذه الخاصية التي يملكها الناقد، يتميز بها الجمهور أيضا، فالجمال يشير إلى جاذبية الأشياء وقيمتها، وتحدث هذه العملية الشعورية بالجمال، وبقيمته حسب الشكل الذي ظهر به العمل الفني في المجتمع، ومن خلال هدف الفن، والذي غايته تحقيق المنفعة، فعندما تحصل المنفعة يتحقق الإعجاب، ويكون الفن جميلا.

وجدت الفنون أساسا لنقرأها ونشاهدها ونسمعها جماليا، وليست قيمة الفن الجميل في ما قصد به ولكن قيمته في ما يحققه من منفعة متبادلة، بين الفنان، والعمل الفني والجمهور، فمن أين يأتي العمل الفني بفنه؟

التعليق الأول للفيلسوف مارتن هايدجر من كتاب “أصل العمل الفني” يقول “إذا كان العمل الفني يثني على الفنان، فذلك يعني أن العمل الفني هو الذي يجعل الفنان يبرز بوصفه فنانا، الفنان هو أصل العمل الفني والعمل الفني هو أصل الفنان، لا وجود لأحدهما دون الآخر، الفنان والعمل الفني هما دائما في ذاتهما وفي علاقتهما المتبادلة موجودان عن طريق ثالث هو الأول، أي ذلك الذي اتخذ منه الفنان والعمل الفني اسميهما وهو الفن”.

تناول هايدجر مفهوم العلاقة بين الفنان وعمله الفني بشكل فلسفي عميق. يقول هايدجر إنه إذا كان العمل الفني يثني على الفنان، فهذا يشير إلى أن العمل الفني هو الذي يمنح الفنان هويته كفنان ويجعله يبرز. وبالمثل، يؤكد أن الفنان هو الذي يمنح العمل الفني قيمته وأهميته.

يرى هايدجر أن هذين العنصرين، الفنان والعمل الفني، هما متلازمان تماما، ولا يمكن وجود أحدهما دون الآخر. وبهذا يقترح وجود كيان فلسفي ثالث يكون أصلا للفنان وعمله الفني، وهذا الكيان الثالث هو ما يُسمى بالفن بشكل عام.

ويشير إلى أن “صاحب الحس الفني” يمر بانفعالات عميقة. هذه العبارة تلقي الضوء على دور العواطف والمشاعر في عملية الإبداع الفني. يُظهر الفنان القدرة على التعبير عن هذه الانفعالات من خلال إنتاج الموضوعات الفنية وأهمية السياق في تفسير الأعمال الفنية. عندما يحاول المجتمع تفسير عمل فني معين، يبحث عن السياق الأسلوبي والإطار التاريخي والاجتماعي الذي نشأ فيه العمل الفني.

يشير ما أسلفنا إلى أن فهم العمل الفني يعتمد على معرفة الناس بالسياق الذي أُنتِجَ فيه ومن غيره من التعبيرات البصرية أو الإبداعية. هذا يعني أن هناك خط ضبط يجعل الفن مميزا عن غيره، وهذا الخط يعتمد على فهم الأفراد والمجتمع للفن ودور الفنان في التعبير عن مشاعره وعواطفه من خلال الأعمال الفنية وكيف يتم فهم وتفسير هذه الأعمال من قبل المجتمع، من خلال السياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي.

الفهم الأعمق
التعليق الثاني لبرنارد مايرز كتاب “الفنون التشكيلية”، إذ يقول “الاستمتاع بالفنون، وتذوقها، عند الشخص العادي غير المطلع يكون غالبا محددا بالاتجاه الذي يقيس أهمية عمل فني ما، عن طريق مدى الإثارة والمآسي التي في حياة الفنان، ومهما يكن الأمر فإنه ليس من اللازم أن يكون الاتجاه الابتدائي لعمل فني ما غامضا أو معقدا، أو حتى بدون إثارات حارة في تاريخ حياته”.

وأضاف “فليست لدى الكثير من الناس أي معرفة فنية مهما يكن نوعها، ولكنهم يستخلصون المتعة من أبسط صلة حسية بصورة ما أو بتمثال أو بناء أو بعمل آخر، وهذه الاستجابة الطبيعة يستمتع بها أشخاص كثيرون فيحتفظون في بيوتهم بلوحات مطبوعة ملونة، أو بنسخ من تماثيل، أو بأعمال فخرية، وقد يأتي الفهم بعد ذلك ليرفع من مستوى متعتهم الأصلية عندما تضاف القيم الدهنية والرمزية وغيرها من القيم”.

تحدث الكاتب عن كيفية استمتاع الأشخاص العاديين الذين ليست لديهم معرفة فنية بالفنون التشكيلية وكيفية تذوقهم لها. ويقول إن هذا الاستمتاع يعتمد عادة على الطريقة التي يرى بها الشخص العمل الفني ومقدار الإثارة والتأثر الذي يشعر به من خلال العمل الفني ويجب ألا يكون دائمًا معقدا أو غامضا، ويمكن أن ينبع من تجارب حياة الفنان ومشاعره الشخصية.

الاستمتاع بالفنون، وتذوقها، عند الشخص العادي غير المطلع كفاية يكون غالبا عن طريق مدى الإثارة والمآسي

يعني هذا أن الناس يمكن أن يجدوا تواصلا مع الفن حتى إذا لم يكونوا خبراء في المجال. ويشير إلى أن الأشخاص العاديين قد يستمتعون بالفن من خلال استجابتهم البسيطة للأعمال الفنية مثل اللوحات الملونة أو التماثيل أو الأعمال الفنية الأخرى. وهذه الاستجابة البسيطة تمثل نوعا من المتعة الفنية الأولية وأن الفهم الأعمق للفن، وقراءة معانيه وقيمه، يمكن أن يثري تجربة الشخص في التفاعل معه وزيادة متعته الفنية. وهذا الفهم الأعمق يمكن أن يأتي من تفسير الأعمال الفنية وفهم الرموز والقيم التي تحملها تلك الأعمال.

إذن كخروج من هذه الدراسة المتعلقة بالإشكال القائم بين الفن وما ليس بفن سنجد أن هناك فلاسفة ونقادا ومنظرين خاضوا في هذا الموضوع، وطرحوا آراءهم، سواء في فلسفة الفن، كهيجل وكانت وشوبنهاور ونيتشه، وفي الفن كلايف بيل، ويمكن القول إن النقاش في هذا الموضوع لا يمكن حصره في بضعة آراء، لأنه قابل للدراسة من زوايا مختلفة، وأنماط فكرية أخرى، وعليه فعلى العمل الفني أن يحقق المنفعة الحاصلة بين الفنان والمتلقي، المتمثلة في خلق حالة من الانفعال والعاطفة والإحساس فور مشاهدة العمل الفني، لماذا لأن الحدس هو الإدراك المباشر للنشاط الفني وبدون تحقيق هذا وذاك يبقى ما ليس بفن هو المظنون أنه الفن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى