الأدب والثقافةفن و ثقافة

‘كنا عبيدا في سورينام’ يعري وحشية الاستعمار الأوربي

لم يقتصر هدف أنطون دي كرم عندما ألف كتابه “كنا عبيدا في سورينام” والذي أصبح كتابا كلاسيكيا وانتشر في كل أرجاء العالم، على التخلص من أغلال الحكم الهولندي في بلده سورينام، فقد عبر عن هدفه الأوسع وقناعته قائلا “لا يمكن لأي شعب بلوغ مرحلة النضح الكامل طالما ظل مثقلا بإحساس موروث بالدونية، والانبهار بالمنتصر، وعقدة الخواجة، لا تقل في تأثيرها المدمر على الشعوب من أسلحة المحتل الحربية الفتاكة. فمن خلال التجويع، والتخويف، وشق الصف، ومحاولات كسر الإرادة يعمل المحتل على السيطرة على الشعوب التي يمتص دماءها وثرواتها؛ لذلك فإن مقاومة الاحتلال، سواء كان عسكريا أو اقتصاديا، يجب أن تبدأ بالتخلص من الشعور بالدونية”.

يؤكد دي كرم في كتابه الذي ترجمه د.صالح هلال أستاذ مساعد الأدب الألماني الحديث في جامعة عني شمس، وصدر عن دار صفصافة وكشف فيه وحشية ولا إنسانية الاستعمار الأوروبي ممثلا في الاستعمار الهولندي لسورينام “هذا الكتاب محاولة إيقاظ الذات لدى السوريناميين، وفضح المغالطة في إدعاء نيات السلام لدى الهولنديين في أثناء حقبة الاستبعاد/ الاستعمار”. وانطلاقا من هذا يعد الكتاب إلى حد ما، تعليقا سياسيا على تاريخ سورينام، وجزئيا صرخة مطالبة بالعدالة. وربما هذا هو أهم الأمور، مواطن كان عليه ـ بسبب آرائه المخالفة ـ تجربة القمع الاستعماري بشكل مباشر”.

يطوف الكتاب بين جنبات “سورينام” بلد متعدد الديانات والأعراق واللغات في شمال أميركا الجنوبية، كان يرزح تحت وطأة الاحتلال الهولندي، حيث نسمع بين سطوره أصوات أنين المعذبين، ولكن أيضا نضالهم في مواجهة الظلم.

يقول دي كرم “لا توجد أي بصمة للتأثير الهولندي في المناطق الداخلية لسورينام؛ لا يوجد طريق ولا جسر ولا منزل يسجل شيئا من التاريخ الهولندي. لم يشعر البيض إلا بالخوف في مواجهة تلك البرية التي لجأ إليها عبيدهم الهاربون. بعض قضبان السكة الحديدية المثير للشفقة والمهملة، والتي تؤدي إلى أي مكان ولم تكتمل أبدا، وهي الشاهد الوحيد على حلم وهمي قصير بالذهب.

يقول “عندما تعلمنا نحن الصبية، الزنوج الصغار، أطفال أو أحفاد العبيد، تاريخ الوطن الأم في المدرسة، كان هذا بالطبع التاريخ الذي كتبه أمراء الحرب البيض. أمام الفصل كان يقف إخوة تيلبورجالموقرون، ليحكوا لنا عن مآثر بيت هاين ودي رويتر، وترومب، ودي إيفرتسن، وبانكيرت. نحن الأطفال السود على المقاعد الخلفية “تلك الموجودة في المقدمة مخصصة لأبناء وبنات الأوروبيين”، كنا نحاول جاهدين حفظ تواريخ عائلات الأمراء الهولنديين والبافاريين. نحن، الذين عوقبنا بالعصا إذا تجرأنا عىل التحدث بلغتنا السورينامية داخل جدران المدرسة، كان علينان ننظر بانبهار لتمرد كلوديوس سيفيليس، والسلوك الشجاعلوليام شفايجر. نحن، الذين بحثنا عبثا في كتب التاريخ عن أسماءالمتمردين بوني، وبارون، وجولي كور، سعينا جاهدين للإجابةبسرعة وضميرعلى أسئلة الامتحانات عن أسماء وتواريخ الحكام الهولنديين الذين تم في ظل حكمهم “استيراد” آبائنا على أنهم عبيد.كان النظام يعمل لا توجد طريقة أفضل لتنمية الدونية العرقية من دروسالتاريخ، التي يتم فيها تسمية أبناء شعب آخر والإشادة بهم فقط.لقد استغرق الأمر وقتا طويلا لأحرر نفسي تماما من الهوس القائل بأن الزنجي كان دائما وأبدا أقل قيمة من الرجل الأبيض.

وحول فترة حكم فان أرسين فان سوميلسديك (1683-1688)، يشير “كان العبيد تحت حكمه يكدحون ويتعرقون،زاد الإنتاج. ازدهرت التجارة واحتفلت الأخلاق الكالفينية بالانتصارات. كان الزواج بين البيضوالسود ممنوعا تماما، ولم يسمح إلا بالاحتفاظ بعشيقة ملونة. ألم يأخذ الحاكم إلى مقره، كما قال المؤرخون، امرأة هندية؟ وفي غضون ذلك، بين جميع واجباته، وجد الوقت للحفاظ على سلام هولندا.تحت قيادة فان سوميلسديك، تم كسر المقاومة الأخيرة للسكان الأصليين. تمردوا في المقام الأول ضد ظهور اليهود، الذين طردوهم من الأراضي المرتفعة على طول نهر سورينام، لإنشاء مزارع هناك، حيث كان السكان الأصليون يسكون.كحماية ضد هجماتهم، بنى فان سوميلسديك أولا حصنين،أحدهما قرب نهر كوميويجني والآخر في بارا. في حملته الأولى دمر خمس قرى رشق كوبينام، لكن القرويين فروا إلى البرية قبل أن يتمكن من القبض عليهم. في حملته الثانية، أبحر مرة أخرى إلى كوبينام بثلاث سفن عبرالبحر وتوغل إلى الداخل. هذه المرة، قتل العديد من السوريناميين أو أسروا، وأحرقت القرى، ووجد الهنود أنهم ليس لديهم مايضاهي الأسلحة البيضاء. لذلك تمكن فان سوميلسديك أخيرا من تحقيق السلام في منطقة البحر الكاريبي وأروفاكس وكوبينام، حيث امتنع السكان الأصليون عن القيام بمزيد من الهجمات وأطلق الحاكم سراحهم كأشخاص أحرار ولم يستعبدهم.

ويلفت إلى أن المراسيم الاستعمارية للحاكم، وتعليمات الشرطة والمحاكم، التي تزايدت شدتها، ورسائل حكام أمستردام،تضمنت مرارا وتكرارا كلمة “رعاع” بانتظام رتيب، ولهجة تشهد في الوقت نفسه على القسوة التي لا تعرف الرحمة، والخوف الذي تم إخفاؤه بشق الأنفس.تتدفق هذه الكلمة باستمرار وبإصرار من مداد ريشة كتبةالحكومة الاستعمارية، والظاهر تقريبا أن كل ذكاء الحكام، وكلشجاعة الجنود، وحتى مجموع العمل الثقافيللأوروبيين، جميعها تدور حول شيء واحد فقط: سحق “الرعاع” داخل البلاد،ويقصد بالرعاع أولئك من آبائنا الذين تمكنوا من الفرار من المزارع، على الرغم من السلاسل والحراس؛ المتمردون الذين تحدوا العقوبات والتهديدات الوحشية من جانب البيض؛ المتمردون الذين فضلوا مواجهة أهوال الغابة ليجدوا الموت أو الحرية في نهاية رحلتهم الصعبة. “الرعاع” هم الخارجون عن القانون، الذين تمت مطاردتهم مرارا وتكرارا من قبل حملات، والذين اضرمت النيران في قراهم, وتم في عام 1685 عرض مكافأة قدرها خمسة جيلدرلكل رأس منهم، وبعد ذلك بعامين ارتفعت المكافأة إلى مئة رطل من السكر. في عام 1698 تم دفع 25 جيلدر مقابل اصطياد عبد في المقاطعات أو بالقرب من الأنهار، وحتى 50 جيلدر للآخرين، الذين تم اصطيادهم خارج هذه المناطق وعلى الساحل. وفي عام 1717 تم دفع مكافأة تراوحت بني 600 و1500 جيلدر مقابل اكتشاف قرى قادة الرعاع، وعشرة جيلدر لكل قروي يتمأسره خلال تلك الحملات، سواء كان ذكرا أو أنثى أو طفلا. تم في وقت الحق التوسع في تلك الأحكام بشكل أكبرمن خلال منح مكافأة قدرها 500 أو 1000 أو 1500 جيلدر لأي أوروبييكتشف قرية واحدة أو أكثر يمكن بعد ذلك مهاجمتها من قبل القوات، وذلك اعتمادًا على مدى نجاح الحملة الاستكشافية.

ويتابع دي كرم “نستشهد عىل سبيل المثال بواحدة من تلك الحملات على الغابات، التي نفذت في عام 1711 تحت إشراف الملازم موليناي ضد المارون في أعالي نهر سورينام اكتشفت هذه الحملة معسكر المتمردينالزنوج بسرعة كبيرة. وجرت محاولة لنصب كمين للمارون أثناءنومهم، ولكن تم إحباط هذه الخطة بسبب يقظة المتمردين.نجحت الحملة فقط في القبض على ثلاثة عبيد، هم فلورا وسيري وابنتهما باتينتا. لا يمكن للمرء أن يتخيل بشرا عاجزين ومتروكين أكثر منفلورا وسيري مع طفلتهما باتينتا.

اختلط في ذهن الأم فكرة الموتالوشيك لطفلتها مع الترقب المحطم والساحق لما كان ينتظرها هينفسها. يضاف إلى ذلك فقدان الحرية التي استمرت لفترة وجيزة، ووداع للمكان الذي وجدت فيه السعادة لفترة مؤقتة مع طفلتها.أمام عينيها الرعب فحسب، فكل شيء دمر وفقد. كل خطوة اتخذها الملازم الأبيض موليناي تجاهها جعلتها ترتعد. كانت ترتجف وكان قلبها ينزف. ومع ذلك كانت سيري امرأة شجاعة. وضعت ذراعي الطفلة الناعمة حول رقبتها وقبلتها مرة أخرى بينما كانت الصغيرة باتينتا تنتزع بفظاظة من بين ذراعيها. لم تنبس ببنت شفة، فقط نظرت إلى الملازم موليناي بعيون براقة، ثم وقفت وتطلعت في وجوه الجنود البيض بإباء، دون خوف، ومتحدية الجميع. كانت هي نفسها مندهشة من القوة التي بدت كامنة فيها، ألنها كانت تعلم بالطبع أن ابنتها أصبحت الآن في أيدي الجنود ولن يشفق عليها أحد. بعد فترة قبض الجنود المتوحشين على سيري، وقيدوايديها وقدميها، وألقوا بها أرضا وبدؤوا بجلدهابقضبان شائكة في محاولة لجعلها تكشف عن أولئك الذينيشاركونها مصيرها. بعد هذا العذاب الدموي كانت سيري على وشك الموت. رغم ذلك جرت محاولات لمواصلة استجوابها وهي في تلك الحالة، لكن الرجال البيض لم يتمكنوا من انتزاع كلمة منها.لذلك شرعوا وهم في حالة من الغضب في تعذيب المسكينة بالنار والحديد. وعلى الرغم من ذلك العذاب الذي القته المرأة، والذي كان لا يطاق، رفضت بعناد أن تفيش أسرار إخوتها وأخواتها.

يذكر أن دي كوم، ولد في سورينام عام 1898 كحفيد لعبيد، وهذا الكتاب  “كنا عبيدا في سورينام” أثار ضجة كبيرة عند صدوره 1934، إلا أنه لم يسمح بنشره بنشره إلا في شكل نسخة خاضعة للرقابة، ومنع توزيعه نهائيا في سورينام والمستعمرات الهولندية الأخرى. وفي عام 1936 تم نشره باللغة الألمانية في سويسرا، وتم نشره كذلكمن قبل دار نشر بالمنفى في الاتحاد السوفيتي.وبعد احتلال القوات الألمانية لهولندا في عام 1940، تم حظرالكتاب، وانضم دي كوم إلىالمقاومة الهولندية ضد نظام الاحتلال النازي، وتمت الوشاية به للجستابو، ونقل إلى معسكر اعتقالكامب فوجت في هولندا. وهناك، مثله في ذلك مثل العديد منالسجناء السياسيين الهولنديين، تم نقله للعمل بالأشغال الشاقة أولا في معسكر اعتقال زاكسين هاوزن، ثم إلى معسكر اعتقالنوينجامه بالقرب من هامبورج، حيث توفي قبل وقت قصير من تحرير معسكر الاعتقال، ربما في مسيرة الموت إلى معسكرساندبوستل في أبريل 1945. هو، الذي حارب وكتب ضد العبوديةوالسخرة طوال حياته، مات من الإرهاق والمرض بعد الأشغالالشاقة القاسية في معسكر من معسكرات الاعتقال الألمانية. وفي عام 1960 تم العثور على رفاته في مقربة جماعية بالقرب منساندبوستل، وعندها فقط علمت عائلته بوفاته.

ويعد دي كوم أحد أهم أصوات الحركة المناهضة للاستعمار في القرن العشرين. “مناضل من أجل الحرية، بطلللمقاومة، نقابي، ناشط، كاتب، ومنفي”.. كتب كل هذا على قاعدةنصبه التذكاري الموجودة بأمستردام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى