تشكيل وتصويرفن و ثقافة

الفنان السوري زهير حسيب يصنع عالما من الدهشة والسكون الخالص

يستند الفنان زهير حسيب إلى ذاكرته بكل تجلياتها، وبكل ما خزنته من صور عن الحسكة والحياة فيها، ليخط لغته البصرية المدهشة التي تدفع المتلقي لعيش حيوات أخرى متخيلة عبر أسلوب الفنان المتميز الذي طوره من خلال اطّلاعه على تجارب الرواد في التشكيل السوري.

بما أن الفن في سوريا أحد مكونات الخلطة العجيبة للفن البيزنطي القديم مع فنون مصر القديمة والفنون الإغريقية والرومانية والفن في بلاد فارس، كان من الأكيد أن تتبلور الكثير من التجارب التشكيلية السورية المعاصرة وتتشكل ملامحها عند صياغات تحمل الكثير من ملامح تلك الفنون والتي كانت منطلقا للكثير من التجارب التشكيلية في العديد من المناطق المجاورة، والتي امتدت حسب أراضي الإمبراطورية البيزنطية وبطبيعة الحال كانت أيضا من ضمنها تركيا ومصر.

وتحاكي الكثير من التجارب التركية المعاصرة هذه الفنون بشكلها الحديث وبصياغاتها الخاصة المحلية وقضاياها الوطنية لكل بلد، وفي مصر تتكلم الكثير من التجارب التشكيلية بنبرة صوت الفن القبطي الذي كان أساسا مؤثرا للفن الحديث لاحقا، وتجلت القدرة الفائقة لهذا الفن في وجوه الفيوم التي اعتبرها النقاد في الغرب من أجمل رسومات فن الرسم الكلاسيكي العالمي القديم.

عالم من الدهشة والجمال الخالص دائما يحيلنا إليه الفنان التشكيلي السوري زهير حسيب ويجنح في تصوراته وتجربته التشكيلية إلى السكون الخالص بتكوينات أغلبها بورتريهات وجوه نساء جميلات تدعو المتلقي للتأمل والركون في منطقة بين الصمت والنطق، تلك المناطق الظليلة والممتلئة بألوان متوهجة وبملامس أنيقة ذات حرفية عالية في التجهيز يتداخل فيها الرسم والأرضيات المكونة من مواد جاهزة لأقمشة ومنسوجات حقيقية وأخرى مرسومة في وحدة غاية في التكامل والانسجام.

كل هذه المحسنات التشكيلية والقدرة الكبيرة في الأداء والتنفيذ في الرسم تصبح مساكن للروح، ذلك المكان الفسيح الذي ينتهي فيه دور العقل ويكون الوجدان هو المحرك الأساسي لعملية التذوق الفني لأعماله، بتأمل أولي وتماه مع هذه النصوص البصرية في حوار لا ينتهي أبدا.

فالمتلقي لا يحصر نفسه في صياغة قصة ما في أعمال حسيب بل يترك الباب مفتوحا لشرح إضافي من فعل تلك المحسنات التشكيلية وتلاشي كل من المكان والزمان، تأثيث فضاء سينمائي لا يحيل إلى أمكنة مباشرة وأزمنة محددة، بل يدفع المتلقي إلى العيش في هذه العوالم حياة أخرى بديلة مع تراث زاخر بالأصالة وتقنيات وأفكار متماهية مع المعاصرة اكتسبها الفنان حسيب عبر سنوات طويلة من التجريب والخبرة العملية والعلمية والاطلاع على تجارب رائدة والعيش على تخومها في بواكير حياته التشكيلية كتجربة فاتح المدرس الملهم للعديد من التجارب التشكيلية في سوريا والبلدان العربية في مراحل تشكل الوعي التشكيلي الرفيع في المنطقة.

تصبح هذه الأعمال سابحة في عالم زهير حسيب الخاص، مشيرة إليه دائما. كان يتقنها بمهارة كبيرة، يتقن إعداد الأرضية وتدرجات اللون المونوكرومي أو تعدد الألوان في تمكن كبير وأشكاله تتخذ أوضاعها في تعبيرية غاية في الجمال وتساعد على إيصال المعنى الذي يريده الفنان، سواء محبة أو دهشة، تأملا أو حنوّا، خوفا أو فرحا أو الاثنين معا.

الأجنة في وضع الكمون وبداية الخلق هي ثيمة متكررة عند الفنان زهير وكأنه دائما يتغنى ببداية النشأة الأولى للإنسان حيث كل شيء غاية في الصفاء الخالي من كل شوائب الحياة وضنك العيش المعاصر حيث التسارع في الإيقاع المفضي إلى ارتباك الحياة، فتكون هذه المساحات بمثابة جرعات جمالية للمتعطش للمعرفة البصرية الرفيعة.

في أعماله تجتمع مشاعر المحبة بين البشر، وكأنه قبض على النور عبر إتقانه للتلوين ومعالجة معاجين تختلط بها المشاعر. يدعونا دائما أو هو يذكرنا بإنسانية مفقودة في داخلنا. يعتمد الفنان على المفارقة في العمل الواحد الرهافة والخشونة مناطق تستدعي ملامس ناعمة وأخرى خشنة، رهافة الأنامل والوجوه ونعومة أطراف الجسد الأنثوي الذي يتخذ أوضاعا تعبيرية تذكرنا بملامح شاجال في رسمه سيمفونية الوجود الإنساني. إلا أن الفنان زهير حسيب كانت مفرداته دائما أجمل بأناقة الملبس وجمال الوجوه ومهارة في الرسم وتوليفة نصوصه الجمالية التي تحاكي بادية الشام حيث القصص التي سردها كل عباقرة التشكيل السوري المعاصر الكل حسب رؤيته ومزاجه.

ويمكن القول إن أعماله نصوص بصرية توثق لحياة كاملة وجزء من حضارة بشرية في أهم مناطق العالم بأسره، تستقي مشهدياتها بمشاعر مرهفة من الذاكرة السورية – الكردية.

الفنان التشكيلي زهير حسيب من مواليد الحسكة، سوريا. عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، حاصل على دبلوم فنون في دراسات عليا. وهو الآن متفرغ للعمل الفني. نظم العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل سوريا وخارجها، منها العراق والسعودية والإمارات العربية المتحدة وعمان وبيروت بالإضافة الى عدد كبير من المعارض داخل الوطن منذ 1980 إلى 2021.

له العديد من أعماله مقتناة في كل من وزارة الثقافة، وزارة الدفاع، المتحف الوطني السوري، دار الأوبرا، بيروت، دبي، عمان، السعودية، العراق، ألمانيا، سويسرا، السويد، باريس، والكثير من دول العالم. وهو حائز على جائزة الإبداع السنوية لاتحاد مثقفي غرب كردستان في دورتها الأولى عام 2018.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى