تشكيل وتصويرفن و ثقافة

الفنانة فاطمة دمق : التشكيل النسوي لا يزال ذا حضور محتشم عربيا

الدكتور فاطمة دمق فنانة وأكاديمية تونسية وجّهت تجربتها التشكيلية أكاديميا وشخصيا نحو فن الحفر، وهو من الفنون قليلة الظهور بالساحة الفنية بتونس وبالعالم العربي عموما، وذلك بحسب قولها، وقد خرجت بهذه التجربة من إطارها الكلاسيكي نحو البحث عن أساليب تعبيرية متجددة في الطرح المادي والشكلي والهندسي للمحفورة وتعاضد الشكل مع المضمون ليصب أساسا في عالم الحلم والفنتازيا.

تحدثت الفنانة التونسية في حوار جمعنا بها عن الحالة التشكيلية العربية، فقالت إن العالم العربي يواجه مصاعب مختلفة في إيجاد البروز الثقافي داخل دائرة المنافسة العالمية وخاصة في الفنون التشكيلية، وثمّنت الجهود المبذولة من الجهات الحكومية والمؤسسات المعنية بالثقافة والفنون في العالم العربي من أجل مواجهة تلك المصاعب، وسعيها لإزالة العقبات التي تعيق تقدم الحركة التشكيلية بالعالم العرب، وتمكين الفنان التشكيلي العربي من الظهور والتعبير عن قضاياه.

وأضافت أن من يغادرون الساحة الفنية العربية مجبرون على ذلك بسبب ارتفاع النفقات التي يحتاجها كل فنان ليتمكن من استكمال مسيرته مع الفنون التشكيلية، وأن من يبقون في الساحة يضطرون إلى تحمل “مصاريف ثقيلة” وينفقون بشكل شخصي على مشاريعهم الفنية، وهو أمر وصفته بـ”المرهق”، إضافة إلى غياب بعض الأدوات والمواد والتقنيات التي يحتاجها كل فنان، وضربت مثالا بما تواجهه هي من أجل استكمال تجربتها في فن الحفر كغياب “الليتوغراف” في وطنها تونس على سبيل المثال.

التمرد والتوق للحرية
أوضحت فاطمة دمق أن إحدى المشكلات التي واجهت التشكيليين العرب، وباتت مطروحة بقوة على المدى الواقعي وداخل المعطى التاريخي، هي اصطدم الفنان التشكيلي العربي بدائرة الحداثي خلال بدايات القرن الماضي على إثر الحركات الاستعمارية والاستشراقية والاحتكاك بتجارب الغرب المتطورة، وكان الفنان العربي يرحل بذاته بين الجمود والوجود، وبين العزلة والتحرر، وبين التقليد والتجديد، في صدامات التمرد والتوق للحرية، وذلك برغم أن الطابع التقليدي بقي فارضا لونه وطاغيا على الذائقة الفنية عموما.

وأشارت إلى المحاولات الجادة في مختلف الأقطار العربية للحفاظ على الهوية العربية الإسلامية في مواجهة هجمة الحداثة والنزعة التغريبية، وتهيئة المناخ الحضاري والثقافي وحاجة المتلقي إلى الفهم والإدراك، إلا أن معظم الرسائل الفنية العربية ظلت تتحرك بتحرك الغرب وتمول رصيدها الفكري والتقني بإبداعات الغرب وابتكاراته السباقة.

وذكرت الفنانة الدكتورة فاطمة دمق أنه مهما تعددت العراقيل فإن “المحاولة” كانت شعار العديد من الأسماء العربية الرائدة التي لمعت في سماء الإبداع التشكيلي المحلي والعالمي وظلت تبحث عن سبل تعبيرية متجددة ومرتبطة بقضايا الوطن ومشاغل المجتمعات.

أما حول رويتها لمدى قدرة الفنان التشكيلي العربي على الاعتماد على ممارسته للفن التشكيلي كمصدر رزق، فقالت إن ذلك يرتبط بثقافة الشراء في المجتمعات العربية، فهل أن العربي يمتلك ثقافة اقتناء الأعمال الفنية؟ وإن اكتسب هذه العادة، فإلى أي المعارض الفنية سيتوجه؟ وهل أن الحكومات حاضرة لتعوّض الفنان وترصد الميزانيات وتخصص منحة للفنان المنتج أيا كان إنتاجه كما هو الحال، على سبيل المثال، في فرنسا والدنمارك؟ وذهبت إلى القول بأن الأمر صعب مع عراقيل التسويق وتوجيه ذائقة الجمهور.

وحول قول البعض بوجود فن “ذكوري” وآخر “نسوي” قالت دمق إن الفن لا يميّز بين رجل وامرأة، وإن الإبداع طريق الإنسان أيّا كان جنسه وعمره، وأن الموهبة يمكن لها أن تظهر وتصقل وتكبر عند المرأة والرجل على حد سواء.

من ناحية أخرى، نوّهت الفنانة التشكيلية بأن الفن التشكيلي النسوي في وطنها تونس كغيره في بقية الأقطار العربية يبقى محتشم الحضور نظرا لما تواجهه المرأة من صعوبات في دخول عالم التشكيل وسط المجتمعات التي طغت عليها الصبغة الذكورية، وثمّنت في المقابل تجارب فنانات تونسيات رائدات نقشت أسماءهن في ذاكرة التشكيل التونسي مثل صفية فرحات وعائشة الفيلالي ومريم شلتوت وغيرهن.

وشددت على أن ظروف المرأة تختلف عن الرجل في مجال الفنون التشكيلية، لكونها تواجه تحديات كبرى وصعوبات مختلفة، وهي تناضل داخل دائرة معتقد ثقافي وجمعي لا يشجع المرأة على الإبداع، وأنها كبقية بنات جنسها وضعت أمام هذه الفرضية وكابدت لأجل ممارسة مهنتها وهوايتها في الفن، وكان الرهان قائما في ضرورة التوفيق بينها وبين التزاماتها ومشاغلها الحياتية، وكل ذلك تطلب منها الصبر والمثابرة، وكانت أحيانا تشعر بالتعب إلا أنه تعب يمتزج باللذة والرغبة في المواصلة. وكان إصرارها على التحدي والنجاح أكبر من ذلك، فكانت تفكر وتخطط وتفشل أحيانا ثم تعود وتستقر وتنجز وتسعى للبحث وتطوير مكتسباتها حتى تكون علامة وإضافة في عالم التشكيل في وطنها تونس وبخاصة في عالم فن الحفر الفني.

حول المدارس الفنية التي أثّرت في تجربتها الفنية، قالت الفنانة الدكتورة فاطمة دمق إن منذ البدايات الأولى تعلقت رغبتها الفنية برسم عوالم تشكيلية مرتبطة بالخيال، وكان لديها تساؤل دائم “أين يكمن الجمالي من خلال الخيالي؟ أو بصياغة أخرى “كيف الحديث عن جماليّة المُتخيّل التشكيلي؟” وشدّها التوجه نحو المدرسة السريالية العريقة وما تكتنزه في طيّاتها من أسرار دفينة نحو استكشاف عوالم النفس، ووجدت نفسها على عتبة الغريب والصّادم والعجائبي الذي انطلقت به عبر بحثها برسالة الدكتوراه التي تناولت مسألة العجائبي في الفن التشكيلي التونسي المعاصر.

جمالية المتخيل التشكيلي
وتابعت بالقول إنه ربما كان هذا قدرها في أن تكون في بحث دائم عن عالم آخر، عالم سريالي حُلُميّ، تستطيع التنفس فيه، وهي التي قضت طفولتها بين ربوع الحدائق والطبيعة الملوّنة بألوان الحياة بمسقط رأسها، عانقت الحلم طفلة وحاولت أن تمسك بالنجوم والغيمات داخل الكون الشاسع، حتى صارت امرأة تبحث عن التحرر والانعتاق، وأنها في اللوحة تحبذ أن تنطلق أشكالها خارج الإطار منفتحة على كل القراءات والتأويلات، وأنه وبحسب قولها “هكذا تكون المرأة عندما يفيض بها الإحساس حتى تصبح عشتار الخصوبة والنّماء تريد أن تمنح لكل الكون أمومتها”.

أما حول عوالمها الفنية وعلاقتها بالتشكيل وبخاصة الحفر الفني، وما تمر به من مشاعر خلال ممارستها الفنية، قالت إن في الكثير من الأحيان، لا يمكن للغة أن تترجم ما يجول بنفس الفنان التشكيلي خلال مراحل عمله الفني، حيث تتجاوز المسألة الكلام والتعابير، وأن تجربتها مع فن الحفر أو الغرافيك صارت جزءا منها وتتبعها في كل تفاصيل حياتها الأكاديمية والمهنية، بل هي هوايتها الأولى، إذ تجد المتعة في مداعبة الخامات وبالأساس مادة اللينوليوم “التي أعتمدها في عمل الحفر وأرسم أشكالي من ماهية الحلم واللا مألوف، فتتراقص المشاعر على إيقاعات حركة الحفر بين مرونة وخشونة وضربات اللون وعجائنه في حوار شيّق بين الداخل والخارج، وسيمفونية تشكيلية مفعمة بمشاعر القلق الوجودي في تعابيره الإنسانية المطلقة”.

◙ العالم العربي يواجه مصاعب مختلفة في إيجاد البروز الثقافي داخل دائرة المنافسة العالمية وخاصة في الفنون التشكيلية

وحول موضوعات أعمالها الفنية، قالت الفنانة دمق إنها ترى أنه من المفروض أن لا وجود لموضوع في العمل الفني بل هي الفكرة التي تطفو على سطح العمل مختفية بين طيات الرموز والعلامات، غامضة معتّمة، هي فرصة للمتلقي ليكون بين فعل وتفاعل أمام المنجز التشكيلي ليصبح طرفا في العملية الإبداعية ويستنتج موضوعه حسب ما تقتضيه ذائقته ورصيده الفني، ثم ماذا لو تعددت القراءات وتوالدت وتكاثرت بين المتلقين لتسجل التجربة غاياتها الجمالية المُثلى.

ولفتت إلى حضور الأشكال الغريبة بقوة في محفوراتها في محاولة لإعادة رسم العالم بما أتيح لها من ملكات الفكر والخيال، وأنه في إطار أن الرجل والمرأة هما أصل الوجود الإنساني، فقط بقي وجودهما في تجربتها مشفّراً تحت غطاء الرمز والإيحاء حتى تتوجه الرسالة الفنية بخطاب مطلق تختلط فيه الذات بالخامات والمحلولات والعجائن والمواد نحو الامتداد واللاّ محدود.

يذكر أن الفنانة التشكيلية الدكتورة فاطمة دمق هي تشكيلية تونسية حاصلة على درجة الدكتوراه في علوم وتقنيات الفنون، وتعمل أكاديمية بالمعهد العالي للفنون والحرف بصفاقس، وشاركت في العديد من المعارض الجماعية والمهرجانات داخل تونس وخارجها، إضافة إلى مشاركاتها في الكثير من الندوات العلمية المحلية والعربية والدولية، ولها العديد من المنشورات والدراسات الشخصية في العديد من الدوريات، بجانب مشاركاتها في التأليف الجماعي للكتب والأبحاث المحكمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى