إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

ما بعد الإنسان/ية Posthuman/ism (الجزء الأول)

علي عويض الأزوري

يوحي الاسم والتسمية لمفهوم ما بعد الإنسان/ية أن فكرة الإنسان الذي نعرفه حاليا ستُلغى ويحل محلها شيء آخر، إنسان مُحَسّن بمواصفات تقنية وبيولوجية مختلفة.

إن ما بعد الإنسانية مفهوم فلسفي يتحدى الفهم التقليدي للطبيعة البشرية والوجود. وهو يقترح أن تطورنا قد لا يقتصر على الحدود البيولوجية، بل قد يمتد إلى التكنولوجيا والتغيرات الثقافية والتقدم العلمي، وإحدى الأفكار الرئيسية لمفهوم ما بعد الإنسانية هي: أن البشر ليسوا كيانات ثابتة ذات جوهر داخلي أو جوهر ذاتي. بل إنهم يرونهم يتغيرون بمرور الوقت بفضل عوامل خارجية. على سبيل المثال، حقيقة أن العديد من الناس الآن لديهم حياة رقمية واسعة النطاق تعني أن تجربتنا مع التكنولوجيا والوسائط المتعددة قد غيرتنا بالفعل.

صحيح أن البشر ليسوا كيانات ثابتة في أفكارهم ومعتقداتهم وسلوكياتهم، ويطرأ على كل ذلك تغييرات حسب الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن ما بعد الإنسانية ترى أن التغيير الذي سيحصل هو تغيير في التركيبة الداخلية والجوهرية عن طريق التكنولوجيا، ومثال التقنية (الجوالات والفضائيات) غيرت في طريقة تفكير وسلوكيات المجتمعات التي أدمنت على استخدامها.

هناك جانب آخر من الفكر ما بعد الإنساني يزعم أن البشر ربما لم يعودوا وحيدين فيما يتصل بذكائهم. فقد اقترح المفكر المؤثر في مجال ما بعد الإنساني راي كورزويل أن آلات فائقة الذكاء سوف تظهر، وسوف تتمتع في البداية بقدرات معرفية تفوق قدرات البشر أنفسهم.

هذه الآلات من صنع البشر الذين يمنحون تلك الآلات قدرات فائقة، ولا شك أنهم مدركون لخطورتها مستقبلا، وعلى ذلك الأساس تم تصميمها وخوارزمياتها. أذكر أنني كنت أشاهد قناة BBC2، في بريطانيا وتكلم أحد الفيزيائيين قائلا إن كمبيوترات عملاقة ستحكم العالم في المستقبل.. كان ذلك في عام 1992 م.

وقد جاءت مساهمات مهمة أيضًا من الفلاسفة الفرنسيين جيل دولوز وفيليكس جواتاري، اللذين قدما مفهومهما عن “التحول إلى حيوان” في كتاب ألف هضبة (1980)، وقد طرحوا وجهة نظر مفادها أن الهوية الإنسانية لا يتم تحديدها فقط من خلال علم الأحياء، ولكنها تنتج من خلال العلاقات مع كيانات أخرى، مما يؤدي إلى طمس الحدود بين البشر والحيوانات والآلات.

ولم يكتسب مصطلح ما بعد الإنسانية رواجًا إلا خلال تسعينيات القرن العشرين، وذلك بفضل علماء مثل: (دونا هارواي، وكاثرين هايلز).

زعمت مقالة هارواي “بيان سايبورغ” (1985) أن هناك تفسيرًا نسويًّا للسايبورغ: يمكن اعتبارهم رموزًا قادرة على التهجين (المزج الكامن في دمج الأجسام مع الآلات) وفي الوقت نفسه مقاومة المعايير الجنسانية التقليدية.

وقد بحثت (هايلز) في كيفية تغير ذاتيتنا من خلال التكنولوجيا.. واستكشفت شبكة الإنترنت الجديدة آنذاك، حيث لم نكن نحرك أصابعنا فحسب، بل وأفكارنا أيضًا. وقد دافع كتابها “كيف أصبحنا ما بعد البشر ” (1999) عن فهم جديد لما يعنيه أن تكون إنسانًا ووجدت أنه في العصر الرقمي، أصبحنا نُعرَّف بشكل متزايد من خلال علاقاتنا بالآلات.

جذور ما بعد الإنسانية معقدة ويمكن إرجاعها إلى قرون من الزمان في حركات فلسفية وفكرية مختلفة. كانت الوجودية، وهي مدرسة فكرية مؤثرة في القرن العشرين تحدت المفاهيم التقليدية للهوية البشرية والوجود، من بين أسلافها الأوائل.

انتقد المفكرون الوجوديون مثل: (فريدريك نيتشه، وجان بول سارتر) أفكارًا مثل الجوهر الإنساني الثابت أو الطبيعة، وأكدوا بدلاً من ذلك على الحرية الفردية وخلق الذات.

تأثرت فلسفة ما بعد الإنسانية بالتطورات التكنولوجية، بما في ذلك علم التحكم الآلي، الذي بدأ يتشكل في منتصف القرن العشرين. استكشف علم التحكم الآلي كيفية تفاعل البشر مع الآلات وأنظمة المعلومات، ويمكن رؤية جوانب من هذا التفاعل اليوم في التفكير ما بعد الإنساني.

إنها حركة متعددة التخصصات تضم مفكرين من مجالات مثل الفلسفة والأدب والموسيقى والعلوم.

وعلاوة على ذلك، فإن ما بعد الإنسانية تثير تساؤلات أخلاقية حول تعزيز القدرات البشرية باستخدام التكنولوجيا. فهل من الصواب أخلاقيًّا، كما تتساءل، أن نغير بيولوجيتنا أو ندمج أنفسنا مع الآلات من أجل التحسين؟

وبهذه الطريقة، يثير المصطلح مناقشات حول مواضيع مثل: تحرير الجينات، والقرصنة البيولوجية، والذكاء الاصطناعي.

لا ينظر إلى الإنسان على أنه استثنائي أو مهيمن، ولكن بدلا من ذلك مترابط في الجسم والسلوك والعقل مع الأنواع الأخرى والبيئة (Tarr and White، 2018).

يقول نيل بادمينجتون: “هناك فرق مطلق بين الإنسان وغير الإنسان: فالإنسان وحده هو الذي يمتلك القدرة على التفكير العقلاني. أما العقل فهو ملك للإنسان وحده، وبالتالي فهو يعمل على توحيد الجنس البشري. قد يكون لدينا أنواع مختلفة من الأجسام، ولكن لأن العقل هو خاصية من خصائص العقل (الذي يمكن تمييزه عن الجسم في نظر ديكارت)، فإننا في أعماقنا متشابهون”. (2000)

 وتقول روسي برايدوتي: “لا يستطيع كل منا أن يقول، بدرجة من اليقين، إننا كنا بشرًا على الدوام، أو إننا كذلك فحسب. بل إن بعضنا لا نعتبر بشرًا بالكامل الآن، ناهيك عن لحظات سابقة من التاريخ الاجتماعي والسياسي والعلمي الغربي. ليس إذا كنا نعني بـ “البشر” ذلك المخلوق المألوف لنا منذ عصر التنوير وإرثه.” (2013)

في البداية، يرفض ما بعد الإنسانية فكرة الجوهر الإنساني الثابت أو الهوية التي تشكل أساس الإنسانية التقليدية. وهو يتحدى فكرة أن البشر لا يُعرَّفون إلا بتركيبتهم البيولوجية، ويستكشف السبل لتجاوز هذه القيود من خلال التكنولوجيا أو التغيير الثقافي.

ثانيًا: تعترف فلسفة ما بعد الإنسانية بالترابط، والترابط المتبادل ليس فقط بين البشر، بل وأيضًا بين البشر والحيوانات والآلات والنظم البيئية. بعبارة أخرى، فإن كون الإنسان حيًّا لا يعني مجرد كونه إنسانًا.

وثالثًا: هناك ما يمكن أن نطلق عليه الجزء التقني. إذ يهتم أتباع ما بعد الإنسانية بكيفية تشكيل التكنولوجيا لتجربتنا في الوجود في العالم ومن نكون كأفراد ــ حتى أنهم يقترحون أنها ستكون محورية لتطورنا في المستقبل كنوع. ويدعو البعض إلى تكنولوجيات “ما بعد البشرية” التي قد تعزز القدرة الإدراكية أو الوظيفة البدنية.

ومن بين السمات الأخرى التي تثيرها هذه الدراسة مسألة الأخلاق: إذ يتعين علينا أن نتساءل ما إذا كانت بعض التدخلات التكنولوجية في التعامل مع البشر أخلاقية. ومن الأمثلة على ذلك الاستقلال الجسدي، واعتبارات العدالة الاجتماعية فيما يتصل بالوصول إلى التكنولوجيات الجديدة، والاستدامة البيئية، نظرًا لتأثير بعض التكنولوجيات الناشئة على النظم البيئية.

إن التأثير الإجمالي لهذه السمات الأربع هو أن ما بعد الإنسانية تدفعنا إلى التساؤل عما نعنيه بـ “كوننا بشرًا” في هذه اللحظة بالذات من الزمن عندما تغيرت علاقتنا بالتكنولوجيا بشكل كبير، بينما تذكرنا (كما لو كان ذلك ضروريًّا) بمدى ارتباط جميع الكائنات الحية على الأرض بالفعل.

سألني صديقي الدكتور ربيع جان بعد أن قرأ (مسودة) ما كتبت أعلاه:

ماذا عن تفرد الواحد من البشر؟

هل تسير ما بعد الإنسان/ية نحو نسخ متماثلة/متطابقة؟

تركت الإجابة لمزيد من البحث.

بقلم/ علي عويض الأزوري 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى