إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

كيف تشتري تذكرة في الحياة؟

مروة الأماسي

قد نقضي بعض الوقت كل يوم محدّقين في اللا شيء، ونحن نخاطب ذواتنا ونحاورها عن بعض الأمور التي تشغل بالنا، أو نسعى لتحقيقها، أو نبحث عن إيجاد حلول لمشاكل وصعوبات يلزمنا تخطيها لبلوغ أهدافنا، وربما ننجح في الخروج من دوامة التفكير تلك، وربما نفشل.. إلا أّنّ التحليق في فضاء التخيل وأحلام اليقظة يبدو مختلفَ الألوان، فالسماء فيه وردية، ولا يوجد أمر مستحيل أو بعيد المنال.

قد يطلق البعض على تلك الحالة الذهنية، السرحان أو ضعف التركيز، وهي قد تتسم بذلك بالفعل، لكن المصطلح الصحيح هو “أحلام اليقظة”، والتي تعد بمثابة “استراحة قصيرة” للدماغ، ذلك العضو المذهل التركيب، وبالغ التعقيد، والذي يتكون من أكثر من مئة مليار عصب يرتبط بتريليونات من الاتصالات والتي تسمى (نقاط الاشتباك العصبي)، والتي يدير بها جميع العمليات الإرادية واللا إرادية داخل الجسم البشري، بتناغم وسلاسة مبهرة، فتبارك الله أحسن الخالقين.

ومن العجيب بأن الدماغ في حالة أحلام اليقظة يعمل بنفس الكيفية التي يعمل بها في حالة اليقظة الكاملة، ففي مقال نُشر في مجلة ناشيونال جيوجرافيك في عددها الصادر عام ٢٠١٣م، ذُكر بأن العلماء عرفوا منذ أواخر التسعينات بأن أدمغتنا لا تزال تطلق نبضات عصبية والتي نستدل بها على نشاطها، حتى عندما تكون خاملة، ومنذ ذلك الحين حدد العلماء شبكات دماغية محددة تسمى ( حالة الراحة) داخل المادة الرمادية فيه، حيث تحدث ظاهرة أحلام اليقظة.

ومن هنا نتساءل كيف نستخدم هذه الظاهرة بشكل إيجابي لا يؤثر سلبًا على حياتنا اليومية؟ وهل من الممكن تحويلها لأداة تخفف عناّ وتُلهمنا؟ وهل من الممكن تحويل تلك الأحلام الوردية التي نراها في أحلام يقظتنا إلى واقع ملموس نراه رأي العين؟

لطالما تعجبت من الخيال المتفرد الذي يمتلكه كُتّاب الروايات والقصص، وقدرتهم المميزة على خلق أحداث وسرد تفاصيل لم تحدث في أرض الواقع، بل ربما حدثت كما ذكر الكاتب في جريدة الرياض، في عددها الصادر عام ٢٠١٥م، حيث قال: (لم يحدث أن كتب روائي روايته وهو نائم، فالروايات لا تُكتب ومؤلفوها نيام، ولكن حدث كثيرًا أن حَلُم الروائيون بمشاهد صغيرة، أو وقائع متناثرة، فدسوها في تضاعيف رواياتهم، فالروايات مملوءة بالأحلام قديمًا وحديثًا، ولكنها أحلام يقظة يكتبونها في حالة صحو كاملة). ومن الجوانب المضيئة لهذه الظاهرة هي قدرتها على تخفيف التوتر والقلق، فهي عبارة عن فترات استرخاء منتظمة من عناء التركيز والإنتاجية، بل إنها قد تساعد في بعض الأحيان على زيادة الإنتاجية، وذلك من خلال المساعدة في ابتكار حلول إبداعية للمشاكل اليومية، فقد اختبرنا جميعًا تلك اللحظات التنويرية المفاجئة ونحن نستحِم مثلاً، أو نُعد الطعام، أو نقوم بأي عمل روتيني آخر لا يتطلب التركيز، فتظهر فجأة فكرة من العدم لم تخطر على بالنا من قبل.

ومن خلال البحث لكتابة هذا المقال تعلمت بأنّ الطريقة المثلى للقيام بها هو تخصيص بضع دقائق كل يوم لأحلام اليقظة حيث نبدأ كل جلسة بتمارين العصف الذهني، وذلك باختيار الوسيلة الأكثر سهولة ومتعة، سواء كانت الكتابة أو الرسم أو العزف على آلة موسيقية أو أي شيء آخر، واستخدام المهمة كمصدر إلهام لتوجيه عقلنا الباطن إلى الأفكار.

ولكن على الجانب الآخر إذا تم ممارستها بشكل مبالغ فيه فإنّ ذلك سيؤدي إلى نتائج عكسية سلبية، فالانغماس الزائد في أحلام اليقظة قد يؤدي بطبيعة الحال إلى الهروب من الواقع، والتقاعس عن العمل لتحقيق الأماني والأهداف، وقد يؤدي إلى ما هو أبعد من ذلك مثل: الانعزال عن المجتمع، وكثرة النسيان، وصعوبات النوم، وضعف التركيز وخاصة عند ممارسة الأعمال ذات التفاصيل الدقيقة التي قد يعرض القائم بها نفسه ومن حوله للخطر إذا غفل عن أي منها.

ومن الكتب الجيدة المفيدة لتحويل الأحلام لواقع ملموس، كتاب بعنوان (إعادة التفكير في التفكير الإيجابي) لمؤلفته البروفيسورة في علم النفس في جامعة نيويورك وجامعة هامبورغ “غابريلا أوتنجن”، والتي ذكرت فيه أن الأبحاث التي استمرت في إجرائها قرابة العشرين عامًا تثبت أنّ حلم اليقظة بمفرده يمكن أن يقودنا في الواقع إلى نتائج عكسية، لأننا سنشعر بالاسترخاء والراحة في تخيلاتنا، ولا نسعى لاتخاذ أي إجراء لتحقيقها.. لكن التناقض الذهني في طريقة التفكير هو المكون السري لتحقيق تلك الأهداف، أي أننا إذا أخذنا في الاعتبار العقبات التي سنواجهها عند محاولة تحقيق الحلم، فنحن حرفيًّا نحفّز أنفسنا، وندفعها للحماس والبدء بمرحلة التنفيذ. هذا التناقض الذهني يجعلنا أكثر تركيزًا ورغبةً في تحقيق الأحلام. ولتبسيط الفكرة بشكل أوضح تخيل معي بأن حُلم حياتك هو إنقاص وزنك، أو السفر لرحلة حول العالم على سبيل المثال، فبدلاً من التركيز على تخيل الحُلم، والحديث بشكل إيجابي عن مقدرتك العجيبة على تحقيقه بكل سهولة، يجب عليك استذكار الجوانب الصعبة، والعقبات المحُتملة التي ستواجهك وأنت في خضم تصورك الذهني لحلمك، وبذلك ستدفع عقلك للتفكير بمقدرتك على تنفيذه، ويحفزك للعمل على ذلك، ولا ننسى ضرورة الإيمان الكامل بقدرتك، واليقين بأنك تستطيع.

 كما أضافت الكاتبة قائلة بأنه عند استخدام “نوايا التنفيذ” أي الخطط لتحقيق الأمنية، فأنت تقوم بشكل أساسي ببرمجة عقلك للتصرف بطريقة معينة كلما ظهرت عقبة أو فرصة.

لا يسعني في هذا المقال سرد كل ما ورد في الكتاب من معلومات قيمة، وأساليب مفصّلة معتمدة للنجاح، ولكنهّ استشهاد مقتضب أدعم فيه ما سبق ذكره.

في ختام هذا المقال استحضرت عبارة من كتاب الفوائد لابن القّيم الجوزية رحمه الله (ص:٣١)، ألا وهي: (دافِعِ الخَطرْةَ، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافِعِ الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمة، فإن لم تدافعها صارت فعلاً، فإن لم تتداركه بضدّه صارت عادة فيصعب عليك الإنتقال عنها)، وهو هنا كان يعني بالخطرة الوساوس الشيطانية لفعل الذنب، ولكن لو طُبقت نفس الخطوات على أفكار إيجابية نافعة، أكاد أجزم بأنها ستؤتي الثمار ذاتها والله أعلم.

وأخيرًا أحلام اليقظة وسيلة وليست غاية، فلا بد من بذل الجهد والعمل الدؤوب لتحقيق الأماني والأهداف، أو كما قالت الدكتورة غابريلا في كتابها :(لا يكفي أن نجلس ونحلم.. علينا اتخاذ إجراءات وتقديم تضحيات لشراء تذكرة في الحياة).

بقلم/ مروة الأماسي

 

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى