زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

سميرة

لعلَّ شدّة البرد، هي ما جعلتني لا إراديًّا أنتبذ مكانًا قصيًّا في ذلك المقهى. شرعت في مراجعة مسوَّدة قصّتي القصيرة التي عنونتها بـــ (سميرة)، والتي أنهيتها البارحة.

فجأةً، امتد ظلَّان على الصفحة، ويد ناعمة غطَّت سطورها الأولى. اللون الأزرق الصارخ لطلاء الأظفار بدَّد شيئًا من هول المفاجأة، ومنحنى قليلًا من الطمأنينة.

سألت دون أن أزيح نظري قيد أنملةٍ:

– من أنتما؟ وما بكما؟

صوتٌ ذكوريٌّ أجابني:

– أنتِ تكتبين روايةً؟ أليس كذلك؟

ردَّدت متعجبةً:

-كلَّا. إنَّها قصَّةٌ قصيرةٌ

وأضفت:

– ولكن كيف عرفت أنَّني أكتب.

وقبل أن أكمل، قالت الفتاة، وظفر سبابتها المشع بالطلاء شديد الزرقة ينغرس أعلى الصفحة:

– مررت من خلفك منذ قليل، ووقعت عيناي بفضولٍ على هذه الصفحة.

وأضافت:

– سألت النادل عمَّا إذا كان يعرفك، وأجابني بأنَّك اخترت هذا المقهى دون سواه -منذ زمنٍ طويلٍ- صومعةً للكتابة يوميًّا في هذا الوقت الميت من النهار.

أضاف الشَّاب مكملًا حديث الفتاة:

– وقال لنا النادل أيضًا: “إنّنا قلّما نحظى بزبائن في العاشرة صباحًا. بخلاف هذه السيدة التي ما إن تأتي حتى تطلب قهوتها المرّة (تسميها) المستطابة!، وتأخذ في الكتابة بطريقةٍ آليّةٍ، يبدو لي معها أنّها لا تفكر. وكأنَّ وحيًا يلقى عليها، تريد أن تتابعه لكي لا يفوتها منه كلمةً”.

ضحكت من كلام النادل عنِّي. قلت لهما:

– حسناً. كيف لي أن أخدمكما؟

أجابني الشاب، -وظلَّه أخذ يمتد أكثر على الصفحة أمامي- بصوتٍ عريضٍ، بدا لي أنّه يتصنعه، ليبدو كصوت رجلٍ بالغٍ:

 -هل استأذنتِ منا قبل أن تكتبي عن شخصينا؟

بذهولٍ يشوبه خوفٌ أجبته متكلفةً الثقة:

– ومن أنتما لأجعلكما بطلين لقصَّةٍ أنهيت كتابتها منذ أسبوع، وأنا لم يسبق لي رؤيتكما قطّ؟

وهنا، نقرت الفتاة بسبابتها على سطرٍ مدوَّنٍ وسط الصفحة، وهزَّت برأسها بشكلٍ مستفزٍ، وقالت:

– أنظري جيدًا “وفاء، ومنير.”؛ أنا (وفاء)، وهذا أخي (منير). لقد أوردت اسمينا الحقيقين في هذه المحادثة.

وأكملت:

ليس الاسمان فقط، بل المحادثة نفسها بالحرف الواحد التي تمت بيننا قبل قليلٍ.

وبدأت تقرأ من الصفحة:

– “عوّد نفسك أن تخفف من وضع السكر مع كلِّ فنجان قهوةٍ؛ اترك هذا السم اليومي الذي سيقضي على بصرك عاجلًا أم أجلًا. ساعدني على ضبط ارتفاع السكر في دمك يا أخي”.

قاطعتها:

– أنا هنا أراجع ما كتبته أمس.. لم أكتب شيئًا الآن.

وأردفت:

 كيف استطعت قراءة هذا الشطر في لحظة مرورك العابرة هذه؟ هل كنتِ تتلصصين علي؟!

لم أنتظرها تجب.. أكملتُ، متوترةً أكثر:

 – لم يسبق لي أن رأيتكما في هذا المقهى، ولا حتى في أيِّ مكانٍ آخرٍ.

أجابتني بشيء من التعالي مع نبرة ثباتٍ جليَّةٍ في صوتها: ‏

 – عزيزتي أنتِ تصفين ملابسي المتناهية القدم التي لا تمت إلى الموضات الحديثة بصلةٍ، ولا تربطها ببيوتات الأزياء العالميَّة أيَّةُ صلةٍ، بل وتصفين متهكمةً الحلقات المتعددة على أنفي وأذنيَّ وحول جسدي، وعن الكمِّ المتعدد من العقود الملوَّنة حول عنقي، وتذكرين اسم عطر والدتي الكلاسيكي الذي عشقته، ولم تستبدله يوماً قطّ إلى أن توفاها الله.

حاولت الرد.. لم تمهلني الفتاة، اندفعت الكلمات من فمها سراعًا:

– كلُّ هذا هنا على أوراقك أمام ناظري، وأكثر من ذلك أنتِ تهزئين من المراهقات المهووسات بصبغة الطاووس المتعددة الألوان على خصلات شعورهن، وأنا واحدةٌ منهنَّ.

سادت لحظة صمتٍ خِلْتُهَا طالت.

ظلَّلت أتأمل الفتاة بذهولٍ.. حدثت نفسي:

“يا إلهي.. إنَّها تقول الحقيقة، فالفستان الذي ترتديه هو نفس فستان وفاء، بطلة قصتي. إنّه فستانٌ من الحرير ذو زرقةٍ باهتةٍ، أحسب أنِّي استوحيته من فستان تلك المرأة في لوحة (صاحبة المظلة)، للرسام الفرنسي الشهير (كلود مونيه*)، والتي خلَّد بها زوجته”.

  تهيأ لي فجأة أنّي أنفي عن نفسي التهمة، ولكن هيهات.

شعرت بتدفق أفكارٍ آتيةٍ من مكانٍ لا أعرفه، أو من لا مكان، ومنها كون فستان بطلة قصتي، وفستان وفاء الواقفة أمامي الآن مطرزان بخيوطٍ حريريَّةٍ مشبعةً بزرقة داكنةٍ تكشف عن بيتٍ ريفيٍّ تلتمع أمامه خيوطٌ فضيَّةٌ توحي بحركة الماء الرقراقة لجدولٍ صغيرٍ، ويقف على ضفته طائر سنَوْنوْ صغير؛ حِيْكَتْ خيوط ألوانه الزرقاء والبيضاء، ورقبته الحمراء بإتقانٍ قلَّ أن نراه في عصرنا، وثمَّة سنونوة أخرى فردت جناحين مصلوبين للأبد، تحت غرز إبرةٍ نافذةٍ، وخيط حريرٍ شديد التماسك.

وبينما أنا منهمكةٌ حدَّ الثمالة في تلك الأفكار، وقع عليَّ سؤال الفتاة الجميلة الجديد:

– ألستُ المقصودة هنا بقولك:

 “وفاء شغوفةٌ بكلِّ غريبٍ. إنّها تتعمد لفت الأنظار بألوان الطلاء الصارخة فوق جفنيها وأظفارها وشعرها.. وتختار الأحذية اللامعة ذات الكعوب العالية رغم طولها الظاهر، لدرجة أنّها كثيرًا ما تكون قاب قوسين أو أدنى من السقوط لولا استنادها على ذراع أخيها منير الذي يرافقها دومًا كظلِّها في كل خطوةٍ تخطوها خارج المنزل”؟

فركت جبهتي المتعرقة بيدي المعترفة، حدَّقت في وجهها؛ إنَّها ترمش كثيرًا، لعلَّ الدمع الساكن في عينيها يزعجها، راعني أنَّ لديها رموشًا اصطناعيَّةً كثيفةً لم أوردها ضمن خلقي شبيهتها، وإن شئت الدقة -توأمتها-؛ بطلة قصتي.

حدَّثت نفسي:

عجبًا!! هذه الفتاة تقول الحقيقة. نعم أنَّني أصفها بدقَّةِ.

أمعنت النظر في خصلة الشعر التي ترفعها وفاء عن وجهها الى الخلف بين فينةٍ وأخرى أثناء حديثها. هي نفس الخصلة، وهي عين الحركة عند بطلة قصَّتي.

فجأة تذكرت (رواية العطر**). لعلَّ السبب هو عبق عطر فيرست القديم جداً من (ڤان كليف)، الذي ينبعث من جسد وملابس هذه الفتاة هو السبب. يا للعجب. إنّه نفس العطر الذي تستخدمه والدة بطلة قصّتي.

عادت الفتاة للحديث بنزقٍ:

– “اسمي (وفاء)”، وتشير بيدها:

“وهذا أخي منير”.

   يومئ أخوها برأسٍ يتكور فوقه شعرٌ كثيفٌ جمَّعهُ برباطٍ أبيض يصادق على ما تقوله أخته، أو لعلَّه يلقي تحيةً متأخرةً.

تراءى لي لوهلةٍ أنَّني فقدت السيطرة على زمام الأمور. قلت لهما:

– لحظة من فضلكما. تفضلا بالجلوس.

أخذا مقعديهما أمامي. ما زلنا نتبادل نظرات التوجس الغائمة المفعمة بعلامات استفهام لا إجابة لها.

ناديت النادل. عرضت عليهما اختيار مشروبيهما.

قالا بصوتٍ واحدٍ وصداه وكأنَّهما متفقان مسبقًا:

– لا نريد أيَّ شيءٍ منك!

– لا نريد أيَّ شيءٍ منك!

أكملت الفتاة:

– فقط كفِّي عن إزعاجنا بإخبار الناس بأنَّك أكثر منا رقيًّا. أنْتِ لا تعرفين خفايا حياتنا. لا تعلمين ما نكابده كلَّ يومٍ. أنت لا تدركين معاناتنا مع زوجة أبي؛ تلك الطفلة المدللة التي سرقت عقله قبل ماله.

وهنا قال الشاب:

– أرجوك . كفِّي عن تشويه حياتنا.

قلت بانفعالٍ واضحٍ، على إثره ارتفع صوتي لأوّل مرَّةٍ منذ أن رأيتهما:

– اسمعاني جيِّدًا. هل ترياني أمسك بقلمٍ الآن؟

أجاب الشاب، وقد ظهر لي أكثر جلاءً من قبل: منظر شعره مربوطًا الى الأعلى، وعددٌ من الخواتم موزعةٌ على أصابعه الموشومة:

– كلا. لا أرى معك أيَّ قلمٍ، وأعلم أنَّك في جلسة قراءةٍ لهذه الصفحة التي تتحدثين فيها عن ملابسي الغجريَّة، وتصفينها بالمهترئة، وتسخرين من الأقراط في أذنيَّ والوشوم الكثيرة التي حوَّلت جسدي الى سحليَّةٍ مستنفرةٍ على حدِّ تعبيرك.

وأضاف بعصبيةٍ، وقد جمع كفَّه وضرب به الطاولة أمامه بقوَّةٍ:

– لقد تجاوزت حدودك كثيراً.

 أشار إلى رسم الحروف الموشومة خلف أصابع يده بوضوح، وقال:

– “س-م-ي-ر-ة”. تعرفين جيِّدً بأنَّه اسم والدتي التي لم يأبه الملتفون ليلتها، ضيوف عرس أبي لطفلين يكتمان البكاء تجنباً للسعات كفوف والدهما على وجهيهما، ولا لسيارة الإسعاف التي أسرعت بـــ (سميرة) لقسم الطوارئ بالمستشفى التخصصي إثر انهيارٍ عصبيٍّ.

وجدت نفسي أقول:

“يا إلهي ماذا يحدث لي؟

أغمضت عيناي.. هززت رأسي بقوَّةٍ لعلي أستطيع فهم الموقف واستيعابه.

فتحتهما.. نظرت إلى شاشة هاتفي، ها هو المنبه يعلن التوقيت: الخامسة فجر يوم السبت.. ما زلت قابعةً بالسرير، ثمَّة عبارة ترتسم كلوحة (نيون) في عقلي، تقول: “عش ودع غيرك يعيش”.

_____________________________________________

*. كلود مونيه (بالفرنسية: Claude Monet)‏ 14 نوفمبر 1840 في باريس – 5 ديسمبر 1926.

**. رواية العطر: رواية للكاتب الألماني باتريك زوسكيند صدرت عام 1985.

____________________________________________

 بقلم/ فجر عبد الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى