إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

طيور الجنة

مروة الأماسي

الأمن والغذاء والماء وحرية التنقل هي أبسط مقومات الحياة، فلا يمكن لكائن حي يدبُّ على قدميه، أو يطير في السماء، أو يزحف على الأرض، أو يعوم في الماء، العيش بكرامة وسط ركام الذل والمهانة، والتقتير والتجويع، وقضاء جُلّ حياته في الفرار -كلما سمع أزيزًا قادمًا من السماء- حاملًا أهله وبيته ومؤونته على كتفيه، وحياته بين كفيه.

فلا دين، ولا عقل، ولا فكر مستنير يقبل ما شهده العالم أجمع خلال الأسابيع المأساوية الماضية، وما زال يشهده حتى هذه اللحظة!. وعلى الرغم من أنّ مستهل القصة يعود لعقود طويلة مضت، إلا أن حامل لواء الموت قد نسي مع مرور الزمان بأنّه كان يومًا من الأيام مكان الضحية.

نعم.. كان الجلّاد الظالم في زمن من الأزمنة -والتاريخ يشهد- يجر عربته المحمّلة بكل ما يملك، مطرودًا من أرضه وبيته، هائمًا على وجهه، حاملًا الهموم ذاتها، ومتسربلًا المهانة والبؤس وكأنّها رداء الموت البطيء!.

العجيب هذه المرة هو أنّ صرخات الضحايا غلبت صوت طلقات القنّاص، فأخيرًا سمع العالم أجمع صيحات الثكالى، وشاهدوا بأم أعينهم القتل والذبح، والتعذيب والتهجير. فلم يسلم من التنين الثائر منزلٌ ولا مشفى ولا إعلامي ولا شيخ ولا امرأة ولا طفل صغير، ولا شجرة ولا دابّةٌ، ولهيب حقده الأسود قد أحرق القلوب والجلود معًا، حتى ترك الجميع في صدمةٍ مشدوهين من هول المُصاب والجرم الكبير.

وفي وسط تلك الدوامة ارتبك أهل الضمير الحي، وتلعثمت ألسنتهم، واشتبكت أصابعهم الموجهة نحو المحتل الغاشم وتوجّهت نحو أنفسهم، وبدأوا يتعاركون ويُلقون اللوم على بعضهم، مع أنّهم يتكلمون اللغة نفسها، ويتشاركون العادات والتاريخ والدماء والمصير، وبدلًا من استمرارية التطوير والعمل الجاد على إيقاف الحرب والتدمير، رموا بالحصى صروحًا عالية، وهممًا ارتفعت كجبال طويق لا تهزها شتائم ولا لوم ولا هجوم ممنهجٌ ولا تقريع، فهم أضحوا كشمسٍ مشرقة تنير بضوئها القاصي والداني، وتمد أياديها البيضاء لتدعم وتساهم كما هو ديدنها منذ أن توحّدت أراضيها، وتعاقب ملوكها جيلًا بعد جيل.

ليتنا نحارب المحتل على جميع الجبهات بدلًا من أن نُصوب أسلحتنا على بعضنا البعض، فندع الصّحفي يشجب ويندد، والمراسل يتقنُ نقل صور الصراع القائم بحذافيره، والمُقاطِع للمنتجات الداعمة للمحتل بأن يبحث عن بدائل محلية الصنع، وأن نترك السياسي والدبلوماسي يتحرك بثبات باتجاه الهدنة والسلام، وندعم صانع المحتوى بنشر محتواه التثقيفي؛ لرفع مستوى الوعي بين الناس ومحاربة التضليل والتعتيم، ونبارك المساهمات في الحملات الإغاثية وبذل الغالي والنّفيس، ونؤمّن مع المصلين خلف الإمام بخشوعٍ ويقين، وأن نتجنب الفُرقة والفتنة المقيتة المؤدّية إلى التهلكة لا محالة، وأن نجمع القلوب التي انفطرت على مشاهد الذبح والمجازر والنّزيف، والدموع التي سُكبت على تلك القضية المصيرية المشتركة. واللهُ من بعد كل ذلك هو نعم المولى ونعم النصير.

يود أحدنا لو استطاع رؤية طيور الجنة من الأطفال الشهداء، ورؤية ذويهم ممن لحقوا بهم إلى الدار الآخرة وهم يتنعّمون في أعلى الجنان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحَسُن أولئك رفيقا، وقد زالت همومهم، وتلاشت مخاوفهم، وسكنت النبضات بين أضلعهم، واستشعروا فيها الأمن والسلام، وقرّت أعينهم بجزيل عطاء ربهم.

فلربما زاد في تلك اللحظة اليقين بضرورة التكاتف والتحالف، والحكمة في التخطيط والتنفيذ، فالإيمان بالعدل الإلهي، والتركيز على ما يهم هو في ظنّي السبيل الوحيد للنجاة من الاتهامات المُتبادلة وأزمة الضمير، وتحويل الجهود المبذولة لنصرة القضية من حالة الهدر إلى حالة قطف الثمار، بإذن الله تعالى.

قد يقول قائل: لمَ لم تسمي الأمور بمسمياتها؟ والرد بسيط جدًّا، وذلك لأنّنا نشأنا جميعًا على أحداث تلك القضية ونكباتها وتطوراتها، ولم نتوقف لحظة عن التضامن والتعاطف مع شهدائها وأطفالها، حتى لو شغلنا زُخرف الحياة وزينتها.

ويبقى الأمل والعمل نهج هذه البلاد المباركة حكومةً وشعبًا، ولا يُنكر ذلك كلَّه إلا جاحد قاصر النظر أو حاقد ضعيف التأثير.

فاللهم بارك في تلك الجهود الحثيثة المستمرة، واكتب لها السداد والتمكين.

بقلم/ مروة الأماسي

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى