إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

كهف أفلاطون

علي عويض الأزوري

يبدأ أفلاطون بجعل سقراط يطلب من جلوكون (أحد أتباعه) تخيل كهف يتم سجن الناس فيه منذ الطفولة (ليس منذ الولادة). يـُقـيـّد هؤلاء السجناء بالسلاسل بحيث يتم تثبيت أرجلهم وأعناقهم، مما يجبرهم على التحديق في الجدار أمامهم وعدم النظر حولهم إلى الكهف، أو إلى بعضهم البعض أو في/ إلى أنفسهم. هناك خلف السجناء نار خافتة، وبين النار والأسرى ممشى مرتفع بجدار منخفض ويوجد خلف هؤلاء المساجين ما يشبه المسرح لا يستطيعون رؤيته يشبه مسرح العرائس المتحركة أو الدمى، تلك النار هي مصدر الإضاءة الوحيد في هذا الكهف، ويمر أمام هذه النار حراس يحملون تماثيل ونماذج للأشياء المختلفة كالحيوانات والنباتات، … إلى آخره؛ فيرى المساجين ظلال هذه التماثيل والنماذج على الجدار القائم أمامهم، وأحيانًا يصدر الحراس أصواتًا فيعتقد المساجين أن هذه الأصوات تصدر من الظلال أمامهم؛ ويكون شغل المساجين الشاغل هو تفسير هذه الظلال، وقد يتبارون فيما بينهم في تفسير ما يرونه ومن منهم صاحب أفضل تفسير.

 يفترض أفلاطون بعد ذلك أنه تم إطلاق سراح سجين واحد، كان هذا السجين ينظر حوله ويرى النار، كان الضوء يؤذي عينيه ويجعل من الصعب عليه رؤية الأشياء التي تلقي بالظلال؛ إذا قيل له إن ما يراه حقيقي بدلا من النسخة الأخرى من الواقع التي يراها على الحائط، لن يصدق ذلك.

يتابع أفلاطون: “كان السجين المفرج عنه يبتعد ويركض عائدًا إلى ما اعتاد عليه (أي ظلال الأشياء المحمولة)، كان يؤذي عينيه، وكان يهرب بالابتعاد عن الأشياء التي كان قادرًا على النظر إليها، وهذه الأشياء التي كان يعتقد أنها أكثر وضوحًا مما كان يعرض عليه”. ويتابع أفلاطون: “لنفترض أن شخصا ما يجب أن يسحبه بالقوة، صعودًا خشنًا، وطريقًا حادًّا إلى الأعلى، ولا يتوقف أبدًا حتى يتمكن من سحبه إلى ضوء الشمس”.  سيكون السجين غاضبًا ومتألمًا، وهذا لن يزداد سوءًا إلا عندما يطغى ضوء الشمس المشع على عينيه ويعميه. “ببطء، تتكيف عيناه مع ضوء الشمس؛ أولا يمكنه رؤية الظلال فقط، تدريجيًّا يمكنه رؤية انعكاسات الناس والأشياء في الماء ثم يرى لاحقا الناس والأشياء نفسها. في نهاية المطاف، هو قادر على النظر إلى النجوم والقمر في الليل حتى يتمكن أخيرًا من النظر إلى الشمس نفسها (فقط بعد أن يتمكن من النظر مباشرة إلى الشمس “هل يستطيع التفكير في ذلك” وما هو عليه.

ويتابع أفلاطون قائلًا: “إن السجين المفرج عنه سيعتقد أن العالم خارج الكهف كان متفوقًا على العالم الذي عاشه في الكهف، ويحاول مشاركة ذلك مع السجناء الباقين في الكهف في محاولة لإحضارهم إلى الرحلة التي تحملها للتو، كان يبارك نفسه على التغيير، ويشفق على [السجناء الآخرين]” ويريد أن يُخرِج رفاقه من الكهف إلى ضوء الشمس. السجين العائد، الذي اعتادت عيناه على ضوء الشمس، سيكون أعمى عندما يعود إلى الكهف، تمامًا كما كان عندما تعرض لأول مرة للشمس، والسجناء، وفقا لأفلاطون، يستنتجون من عمى الرجل العائد أن رحلة الخروج من الكهف أضرت به وأنه لا ينبغي لهم القيام برحلة مماثلة، ويخلص أفلاطون إلى أن السجناء، إذا استطاعوا، سيتواصلون ويقتلون أي شخص يحاول سحبهم خارج الكهف.

الظلال هي واقع السجناء، لكنها ليست تمثيلًا دقيقًا للعالم الحقيقي. تمثل الظلال جزء الواقع الذي يمكننا إدراكه عادة من خلال حواسنا، في حين أن الأشياء تحت الشمس تمثل الأشكال الحقيقية للأشياء التي يمكننا إدراكها فقط.

من خلال العقل، توجد ثلاثة مستويات أعلى: (العلوم الطبيعية، الرياضيات والهندسة، والمنطق الاستنتاجي؛ ونظرية الأشكال).

يقترح سقراط أن الظلال هي حقيقة واقعة بالنسبة للسجناء لأنهم لم يروا أي شيء آخر؛  إنهم لا يدركون أن ما يرونه هو ظلال لأشياء أمام النار، ناهيك عن أن هذه الأشياء مستوحاة من أشياء حقيقية خارج الكهف لا يرونها.

الانتقال من الكهف إلى ضوء النهار ومن ضوء النهار إلى الكهف يتطلب تحوُّلًا وتغييرًا فيما تعودت عليه العين من الظلام إلى النور ومن النور إلى الظلام، إن العين ترتبك مرتين -على حد قول أفلاطون- وارتباكها يكون لسببين: فإما أن يخرج الإنسان فجأة عن جهله الذي لا يكاد يحس به ليصل إلى حيث يتجلَّى له الوجود أكثر وجودًا وأكثر حقيقةً، دون أن يكون قد بلغ درجة من النضج تُهيّئه لذلك، وإمَّا أن يسقط من سماء المعرفة الحقة إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، ويفقد القدرة على النظر إلى المألوف والمعتاد على أنه هو الواقع.

إن الناس أسرى لحواسهم المباشرة، وما يدركونه من صور وأصوات ليست إلا أشياء زائفة وخادعة ولا تعكس الحقيقة الأصلية أو بعضًا منها. تأتي بعد ذلك مرحلة الإدراك الأولي والعميق حيث يبدأ في التعرف على حقائق أعمق وعلى أصل الأشياء أو بعضا من ذلك، ثم تأتي مرحلة يظهر للإنسان أنه بدأ في التعرف على الحقيقة الأساسية (مع أنه ليست هناك حقيقة مطلقة).

هناك أناس كثيرون في عالمنا يعيشون في هذا الكهف، سواء كانوا أسرى لأفكار، أو أيدولوجيات سياسية أو دينية، أو قيم متغيرة، ولا يرغبون في الخروج لأنهم سيتأثرون كثيرًا مما يجري خارج الكهف الذي صنعوه لأنفسهم أو دخلوا فيه بمحض إرادتهم، ولا يرون إلا الظلال الذي على جدار الكهف.

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى