إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

والذكريات (9‏)

علي عويض الأزوري

تعرفت أثناء وجودي في بريطانيا (للدراسة) على عائلة انجليزية أرستقراطية تدعى عائلة وارنرWarner، كان ذلك في أواخر عام 1993 ميلادي. تسكن العائلة في قصر Mansion  من الحجارة، بني قبل 300 عام بمزرعة أبكوت فارم Upcott Farm التي تبلغ مساحتها 4 آلاف هكتار. الجدة للأب فرنسية الأصل من ذوي الدم الأزرق وترجع أصولها إلى العائلة الملكية البلجيكية (تشهد بذلك الملكة فيكتوريا في وثيقة رسمية تحتفظ بها العائلة)، يتاخم المزرعة غابة تتطاول بها أشجار السنديان إلى 20 مترا؛ فلا أكاد أرى السماء عندما أجلس على عشبها الأخضر وكأني دخلت الجنة قبل موعدي.

تتكون العائلة من الأم كارولاين، والأب بولس، والابنة المتبناة فيث، والجدة التي كانت تسكن قريبا من المزرعة ولديها قطيع من الخرفان تأخذه كل صباح للرعي (مع أنه لو وقف مكانه لأكل مما لذ وطاب، يدوس على عشب أخضر يغطي أقدامه وساقيه ولا يحتاج للمشي مسافات طويلة مثل أغنامنا)، و(بيرتي) الكلب الذي ينحدر من السلالة الكولية العريقة في الحسب والنسب.  كارولاين كانت في العقد الخامس من عمرها وتظهر آثار ارستقراطيتها في لبسها الأنيق وحديثها بأسلوب لغة راقية تشابه لغة القرن الثامن عشر. أما بول فكان في نفس العمر تقريبًا ذو لحية شقراء ولا يكترث كثيرًا لما يلبس. يضع عوينات (نظارات طبية) على عينيه ومهووس بالكمبيوتر الذي يستخدمه في البيت لمتابعة أعمال المصنع الذي يملكانه ويعملان به. الابنة فيث (تعني بالعربية إيمان) ذات الستة عشر عاما ألماسيا، حُسّانة أخذت نصف جمال نساء الكون، ذات عينين عسلية وشعر طويل يصل حتى أسفل ظهرها يشبه ذيل فرس، تخالها من الحور العين اللواتي نقرأ عنهن في القرآن ونتخيلهن، وأراها أمام عيني، ذات ابتسامة فاتكة وأسنان أخذ البياض منها حسنه ونصاعته. كانت المزرعة تبعد ساعة بالحافلة من مدينة اكستر Exeter  التي كنت أسكن وأدرس بها.

استضافوني عدة مرات في ذلك البيت الشاهق في التاريخ، الفاخر في البنيان، الفخم في الأثاث. تقرأ في جدرانه ملاحم انجليزية، وتلمس عبق حياة عريقة ارستقراطية. ظهرت على ملامح بولس الأب عدم الرضا حين تقابلنا أول مرة وجلسنا في المطبخ لأنني أدخن (كان التدخين ممنوعًا لكنني كسرت تلك القاعدة وأجرت كارولاين وفيث تعديلات تناسب هذا البدوي). كان ينظر لي على أنني أحد هؤلاء العرب الذين يحملون بين أكتافهم رؤوسا فارغة، وعلاوة على ذلك كانت أرستقراطية نسبه تأنف من أن يتحدث مع عربي، لكن تأثير كارولاين وفيث كان أقوى فتقبلني على مضض. منحوني غرفة في الطابق الأول لها واجهة زجاجية تطل على حديقة المزرعة بها سرير وطاولة للكتابة وعلى جدران الغرفة أرفف تمتلئ بكتب متنوعة في الأدب والتاريخ. أصحو مع تباشير الفجر فأرى ليزلي ذي السبعين خريفا يعمل في قص العشب والعناية بالأشجار. أسعل فأسمع صوت كارولاين مجيبًا تبادرني بالتحية Good Morning Ali صباح الخير علي. أخرج حيث تكون واقفة في المطبخ تعد طعام الإفطار وقد عصرت لي بضع حبات من البرتقال، وأعدت كأسا من الشاي الإنجليزي الذي تتسرب رائحته الفواحة إلى خلايا مخي، تخرج إلى المصنع بعد ذلك لتلحق بزوجها السيد بولس. أبقى في المزرعة متنقلا بين حناياها الدافئة في شهر ديسمبر مستمتعا برؤية بعض الخيول التي يملكونها وشيئا من الخنازير الطويلة التي تشبه في طولها حافلة مدرسية، يصحبني صديق العائلة المخلص بيرتي الذي أصبح صديقًا لي فيما بعد.

كانوا يقيمون عشاءً رسميا في بعض الأمسيات حيث يلبس بولس وأنا بدلة وربطة عنق، أما كارولاين وفيث يلبسن فساتين سهرة ونجلس حول المائدة؛ حيث أعدت كارولاين شيئا من يخنة لحم البقر، نجلس حول الطاولة وتقدم لنا المقبلات في أطباق عليها ختم العائلة (العائلات الأرستقراطية في أوروبا لكل عائلة علامة خاصة بها مثل الختم تنقش على حافة الأطباق/ هياط إنجليزي فاخر). يمنع وضع المرفقين على الطاولة (تقليد إنجليزي أرستقراطي ومن آداب الطعام عندهم) ونستمع إلى سيمفونيات (تخيلوا من جاء من وادي ليه وكان يستمع لخلف بن هذال، وصويلح الزائدي، وفوزي محسون، وطلال مداح، يستمع لموزارت وباخ وبيتهوفن)، يتكلمون في أمور لا تهمني لكنني أجد نفسي منخرطًا معهم في أحاديثهم.

بعد مراسم العشاء -التي كانت تضايقني كثيرًا- نجلس حول المدفأة نرشف شيئًا من الشاي الإنجليزي حتى الساعة العاشرة ثم نخلد للنوم.

اتصلت كارولاين على المنزل وكنت أجلس في غرفتي أقرأ بعضًا من الكتب المتوفرة، رفعت السماعة وبادرتني بالتحية ثم قالت إن بولس زوجها يقول إن هناك لقاءً شعريًّا ذلك المساء، ويسأل إن كنت أرغب الذهاب؛ وافقت على الفور فتلك فرصة لا تتسنى لأمثالي لمقابلة شعراء إنجليز.

كانت تقود السيارة بين مزارع كبيرة وممتدة على طول الطريق الريفي، دخلنا إلى مزرعة أسوارها جدران مبنية من الحجر، والعشب يغطي السيارة فلا أستطيع رؤية إلا ما هو أمامي (طريق ممتد أدى إلى ساحة بها منزل عتيق مبني من الحجر)، أوقفت كارولاين السيارة ودلفنا إلى المنزل واستقبلنا صاحبه بحفاوة، وعرفته كارولاين على شخصي الكريم، كان على اليسار مطبخًا من الخشب يفتح على صالة كبيرة هي المجلس وعلى اليمين كنبة كبيرة، ويقابلها في آخر الصالون كرسيان كبيران تجلس عليهما سيدتان بدا أنهما في العقد الثامن من عمرهما؛ فالشعر الرمادي دلالة على أن الزمن تجاوزهما بسنوات، كانت إحداهن تدير ظهرها لنا، أما الأخرى فكانت في مواجهتنا، على اليسار كان هناك بضعة كراسي وطاولة صغيرة يجلس خلفها شاب وفتاة، وعلى يسار الكنبة كرسي تجلس عليه سيدة أنيقة تدل ملامحها على أنها في العقد الرابع تختزن عيناها حزنًا دفينًا، جلست في منتصف الكنبة ثم جاءت سيدة رثة الملابس طويلة وضخمة بها حَوَل في إحدى عينيها وشعرها منفوش، قالت كارولاين تُعرِّفُهَا عليّ: هذا علي صديقنا، وهذه روز Rose، صافحتني بحرارة وكأنها تعرفني من سنوات ضوئية، جلست على يميني وكارولاين جلست على الأرض.

بدأت الأمسية الساعة السابعة والنصف.. كان مقررًا أن تنتهي الساعة التاسعة، بدأ المضيف بالترحيب ثم قال نبدأ بقصيدة للسيدة (لا أذكر اسمها). كانت هي التي تدير ظهرها للمجموعة، قام بتوزيع نسخة من القصيدة على الحاضرين وطلبت السيدة من روز أن تقرأ القصيدة، وبعد أن انتهت قرأت قصيدتها بنفسها، بدأ النقاش روتينيًّا في الوزن والشكل، شكر المضيف الشاعرة وروز وقبل أن ينتقل إلى الشاعر الآخر طلبت منه المشاركة، وقلت: أحس أن هناك شعورًا بالذنب في هذه القصيدة؛ التفتت السيدة تطالعني بوجه يعلوه غضب، كانت القصيدة تتحدث عن زوجها الراحل وأيامه الأخيرة ومعاناته مع المرض قبل أن يتوفى، قالت ونبرة صوتها تدل على غضب مخفي How do you know?  أنـّى لك أن تعرف؟

قلت: في البيت الثالث هناك مفردة كذا وفي البيت الذي بعده، وبدأت في تناول القصيدة وتشريحها بطريقتي، كانت تهز رأسها وتقول you are right  أنت على حق، وبدأت تتساقط الدموع من عينيها. انتقلنا إلى قصيدة أخرى وحدث نفس الشيء، حتى وصلنا إلى الفتاة والشاب فألقيا ملحمة عن شيء ما من التاريخ الإنجليزي وفازت تلك الملحمة بجائزة مرموقة على مستوى بريطانيا، لم أتدخل لأنني لم أفقه شيئًا مما قالا. طلبت مني كارولاين أن ألقي على أسماعهم قصيدة كتبتها قبل أيام (مرفقة)، تناقشوا حولها وأعجبتهم بعض الصور.

انتهت تلك الأمسية الساعة الثانية عشر بدلا من التاسعة، عدنا ودلفت إلى غرفتي وذهبت في رحلة من الأحلام لا أتذكرها، صحوت كعادتي وسعلت فنادتني كارولاين إلى المطبخ كان تتبسم كعادتها، لكن هذه المرة ابتسامتها تخفي شيئًا أفصحت عنه بقولها: هل تعلم أنني عندما ذهبت لغرفتي ناداني بول Paul وذهبت إليه، كان يجلس على السرير على غير عادته فهو ينام عند العاشرة، كان يبتسم بسخرية وسألني: هاه، ماذا فعلوا به؟ قلت: اسأل ماذا فعل بهم، قصّت عليه ما حدث وهو يكاد لا يصدق ما يسمع.

كنت أتأهب للرجوع إلى اكستر بعد قضاء عشرة أيام في المزرعة والقرية، وبينما كنت أرتب حقيبتي إذا بالهاتف يرن، رفعت السماعة وكان على الطرف الآخر بول الذي بادرني بالتحية وعرض على أن يأخذني إلى المدينة، في الطريق أخبرني أن صديقه مايكل (زوج روز) يرغب في مقابلتي بعد أن حكت له زوجته عما حصل ليلة البارحة، قرأت لصديقه مايكل بعض القصائد في دواوين تتجاوز العشرة، أصدرها على مر سنوات بمشاركة روز ذات الروح الملائكية.

وصلنا إلى دارهم واستقبلنا مايكل بحرارة، كان ذا لحية كثيفة، طويل القامة يلبس ملابس تشبه ملابس من يقومون بقطع الخشب، دخلنا إلى المنزل وجلست على كنبة طويلة وجلس هو و(روز) على الكنبة المقابلة.. سألتني روز إن كنت أرغب في احتساء شيئٍ من الشاي، وافقت بدون تردد. بدأ مايكل الحديث بينما بول ذهب إلى غرفة الكمبيوتر ليتفقد بعضًا من البرامج التي كانت في جهاز مايكل، استفتح الحديث بالكلام عن الأمسية وما نقلته له زوجته روز التي وضعت أمامي كوب الشاي وأخذتُ في رشفه بصوت خافت، قلت له: قرأت شيئًا من قصائدك وهناك قصيدتك بعنوان كذا لو أنك نقلت السطر الثالث مكان السطر الأخير ووضعت السطر الأخير مكانه لاختلف المعنى تمامًا ولأعطى بعدًا وعمقًا مختلفين؛ قامت روز من مكانها وأحضرت الديوان من أحد الأرفف وبدأت تقرأ ثم التفتت إليه وهي تردد:

He is right! He is bloody right إنه على حق، إنه على حق

دعاني مايكل لحضور لقاء شعري على شرف شاعرة أمريكية كانت في زيارة لبريطانيا وأخبرني أن العديد من الشعراء المعروفين سيحضرون ذلك اللقاء يوم السبت.

اعتذرت منه.. فقد تركت انطباعًا جيدًا لديهم ولا أريد أن أتمادى في ذلك.

كانت كارولاين تقول:

I like you when you talk until you say But, Then I fear what comes next.

أنا معجبة بك حين تتكلم حتى تقول ولكن، عندها أتحسس خائفة ماذا يأتي بعدها.

———————————————–

كتبت هذه القصيدة  في الغابة حيث كانت فيث وبيرتي يرافقاني

 Memories of UPCOTT FARM *

In the woods

Trees elegantly swayed

The wind

Whispered

Foolishly

Robins

Instinctively

Gossiped

She confessed

“Faith Serenity Warner “**

‘you are part of the furniture’

Time then

Motionless

Vegetation rioted

On earth

And

The big tress

Are kings.

Wandered

In the vigorous veins

Of eternity

Upon my soul

Embrace it all.

 Then,

She had nature

In her hands

Virgin

As she was

Closed my eyes

And escaped.

Dramatically

Found shelter

In her hands.

January 1994

Upcott Farm: Owned by the Honourable Caroline & Paul Warner; an aristocratic English (too English for me) family who live in the South West of England. I had the Greatest, and most outrageous chance of a lifetime to be hosted occasionally in Upcott Farm.

Faith Serenity Warner: Their Adopted daughter. A Goddess that escaped the Kingdom of Thebes.

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى