زوايا وأقلاممشاركات وكتابات

قنديل مارغريت

آمال العبيدي

منذ أن انتقلت إلى شارع “ولفل”  WelfelStr الذي يتوسط المدينة في شهر ديسمبر ببرده القارس وزينة عيد الميلاد التي تحتل كل الشوارع فيها قبيل موسم الأعياد، بالكاد كنتُ أرى أيًّا من الجيران! ففي ذلك المبنى الشاهق الذي يحوي شققًا كثيرة، ووجوهًا مختلفة تبتلعها الأبواب المغلقة؛ الصدفة وحدها هي التي كانت تجمعني بهم عند مدخل العمارة، بجوار صناديق البريد. حين ألتقيهم لا يلفت انتباهي إلا نظرات غريبة تتجول في وجهي متجاهلة السلام والتحية التي ألقيها مجاملة. أعترف، بأنها ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة أن يتجاهل الجار في هذه البلاد تحية جاره، ويشيح بوجهه بعيدًا ودون مبرر خاصة إذا كان غريبًا.

لم تكن علاقتي بمارغريت، جارتي الثمانينية طيبة، فمنذ أن جاورتها لم تكن تنظر إليّ إلا بكثير من الشك والريبة، رغم ابتسامتي الدائمة التي تسبقني إليها كلما رأيتها. لم تكن ترد على تحياتي المتكررة لها، ولم يكن لها أي رد فعل على بعض الهدايا الصغيرة  التي كنتُ أضعها في أوراق ملونة أمام باب شقتها، والتي غالبًا ما أحضرها معي من البلدان التي أزورها كلما غادرتُ لحضور مؤتمر أو ورشة عمل. كم تمنيتُ أن أقاسمها بعض الأطباق الليبية التي أقوم بطهيها خاصة في عطلة نهاية الأسبوع.

 مارغريت، عجوز شقراء، ذات عينان زرقاوان، فارهة الطول، عليها مسحة جمال لم يغادر بعد، تتحدث لهجة بايرويث المحلية، فما تود قوله لا أفهمه في كثير من الأحيان. تسكن مارجريت الشقة الثانية من الدور الثالث الذي أشاركها فيه، واشتهرت بوضع قنديل مضيء طوال اليوم أمام باب شقتها كعلامة دالة على وجودها في الداخل، أو كما يقال: “علامة دالة على الحياة”   sign of lifeوعلى أنها ما تزال بخير. من خلال ذلك القنديل كُنت أستدل على حركة مارغريت في حِلِهَا وترحَالها، وفي الصباح الباكر أستمع إلى أصوات أفراد الخدمة المنزلية قادمون لمساعدتها على قضاء شؤونها اليومية، وتحيتها الصباحية لجارنا “يان” طالب القانون العائد من جولته الصباحية مع كلبته “نيروبي”.

 ألتقي مارغريت في كثير من الأحيان في المطعم التركي القريب من مدخل العمارة، ويقوم “أونسل” صَاحب المطعم، بترجمة بعض ما تقوله من أحاديث أثناء إعداده لشطيرة “الشاورما” التي تُحبها. تعودُ بأحاديثها إلى ذكريات طفولتها حين كانت بصحبة والديها ضمن الحشود التي تحضر احتفالية جيش هتلر في “قاعة المؤتمرات”  [1]في مدينة نورينبرغ، حَيثُ تسير قواته في المضمار الكبير الموازي لمبنى المؤتمر، وبخطبه الرنانة يحيي الحشود الكبيرة على جانبي المضمار، وكذلك الأفواج المتدفقة من جيشه، خلال احتفالية تجمع الحزب النازي. تُسهِب مارجريت في وصف ما شاهدته، وتُعرج على بعض ذكريات الشباب؛ فهي ابنة “بافاريا”[2] لم تغادرها إلى أي مكان، مَضَت حياتها تتنقل بين بايرويث ونورينبرغ. مارغريت شَغوفة بموسيقى

“ريتشارد فاغنر”[1] التي لا أحبها ولا أستسيغها! دومًا فخورة بمهرجانه الموسيقي السنوي الذي يُعتَبر الحَدَث الوحيد، والعلامة الفارقة لمدينة بايرويث في كل عام. كانت تَحرص على حضور بعض من أعمال مهرجانه الموسيقي، أثناء عَمَلها في دار أوبرا فاغنر، حيثُ تستمر الحفلة الواحدة لأشهر أعماله الموسيقية مدة سبع ساعات على الأقل في العرض الواحد!.

عُدتُ ذات مساء من الجامعة، لأجد سيارة الإسعاف بصوتها، وبأضوائها في الشارع أمام مدخل العمارة، تعودت مثل هذا الحضور؛ لهذه السيارة، فكثيرًا ما تأتي لإنقاذ أحدهم خاصة من الجيران كبار السن. لم أتمكن من دخول المبنى حينها، وعَرجتُ على “أونسل” متسائلة ما الخطب؟ فأبلغني بأن سيارة الإسعاف هذه المرة قَدمت من أجل مارغريت التي لم تعد كما كانت خاصة بعد إصابتها بكوفيد 19، وشُفيت منه، إلا أن آثاره الجانبية استمرت معها. غابت مارغريت عن حوض الزهور الصغير القابع أمام المبنى الذي تقوم بسقايته ورعايته من حين لآخر، تَركَت مكانها خلف النافذة الزجاجية للمطعم التركي الذي تستمتع فيه بشطائر الشاورما، غابت مناكفاتها مع أونسل، ومع بعض طلاب الجامعة الذين يرتادون المكان. غاب صوتها عندما تسقي النباتات القابعة على شباك ممر الطابق الذي نسكنه سويًّا، ابتعد صوتها الآمر الذي توجهه لي: هل لك بإدخال نباتاتكِ إلى شقتك؟ لا أريدها بجوار نباتاتي! كنتُ أترك نباتاتي على ذلك الشباك عند سفري الطويل، ليعتني بها الجيران إلى حين عودتي. لم أعد أسمع صوت “شكشكة “مفاتيحها، ولا صوت مقطوعة ريتشارد فاغنر “غسق الآلهة” التي تنبعث من خلف باب شقتها، غابت مارجريت، دون أن أودعها، أو أرسل لها بعض نبضات قلبي، غادرت مارجريت وانطفأ قنديلها إلى الأبد.

بقلم/ آمال العبيدي

[1] أحد المباني التي قام ببنائها هتلر، لتكون مقرًا لاحتفالاته وعروضه العسكرية في مدينة نورينبرغ، وبنيت في نوفمبر 1935.

[2] بافاريا، إحدى ولايات ألمانيا الجنوبية.

[3] ريتشارد فاغنر، موسيقي وكاتب مسرحي ألماني، ولد في مدينة لايبزغ بألمانيا في مايو 1813، وتوفي في فبراير 1883. كان له الفضل في تأسيس مهرجان مدينة بايرويث الصيفي، حيثُ يحمل هذا المهرجان إسمه إلى يومنا هذا، وتعتبر رائعته “فليغدن هولينده” لا تزال تعزف في هذا المهرجان الذي يحضره حوالي 60 الف زائر غالبيتهم من الاجانب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88