إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

والذكريات (10)

علي عويض الأزوري

تعرض صديقي ديفيد بن ريتشارد نيوتن David R. Newton لجلطة دماغية قبل أسبوعين. أرسل لي رسالة نصية على هاتفي المحمول يخبرني بما حصل، تأثرت كثيرا فنحن أصدقاء منذ 34 عاما. اتصلت به مكالمة مرئية(فيديو). كان يبدو عليه آثار الجلطة لكنه نجا من تبعاتها ومضاعفاتها وآثارها الجانبية. نصحه الأطباء في البقاء في السرير لشهر كامل، وذلك يتنافى مع طبيعة ديفيد فهو يحب الحركة والتجوال والسفر على دراجته النارية عبر أوروبا.

تعرفت على ديفيد مساء الثامن عشر من شهر أغسطس آب عام 1990 بعد أن وصلت إلى مدينة اكستر Exeter، وقبل لقائي به بيومين. ألقيت عصا الترحال وسكنت في أحد دور الجامعة المخصصة لسكن الطلبة. كان فندقا بدون نجوم مقابلا لمحطة سانت ديفيدز St. David’s Station المحطة الرئيسة للقطارات في المدينة. خرجت تائها بعد أن حل الظلام والشتاء يغطي بعباءته الشارع مع زخات من المطر لا تكاد تُرى تتساقط على الأرصفة والإسفلت. كنت أبحث عن محل لبيع السجائر ولمحت لوحة مكتوب عليها Red Cow News Agency (وكالة صحف البقرة الحمراء). دلفت إلى الداخل كان المحل مزدحما بعض الشيء بالطلبة الذين يشترون دفاتر وأقلاما وقرطاسية استعدادا لبدء الفصل الدراسي الأول في الجامعة من تلك السنة. وقفت في الطابور أنتظر وصول الدور وعندما وقفت أمام الكاونتر كان يقف شاب طويل القامة ذو عينين زرقاوين وبنية رياضية وشعر أشقر خفيف، وبجانبه سيدة ذات شعر أسود وتضع على عينيها نظارات طبية. كان فارق الطول لصالحه بينهما واضحا. ألقيت عليهما تحية الغرب Good Evening مساء الخير، فردا التحية بمثلها وسألني كيف يستطيع خدمتي، طلبت منه علبة سجائر مارلبورو أبيض وأخذ مني ثمن العلبة. لم يكن ورائي أحد؛ فسألني من أين انت فأجبته من السعودية؛ بدا عليه الاهتمام واضحا لأن في ذلك الوقت كانت أزمة الخليج الثانية ودخول القوات العراقية في الكويت واحتلالها لم يمض عليها سوى أسبوعين، والعالم كله صوب كاميراته وأرسل مراسليه وخصص نشراته الإخبارية للشرق الأوسط وتحديدا الخليج العربي. كانت السيدة التي تقف على يساره زوجته أنجلا Angela. طلب مني بأدب أن أتنحى يسارا ليخدم زبونا آخر وسأل زوجته أن تأخذ مكانه. سألني إن كنت أشرب القهوة فهززت رأسي إيجابا.. دخل إلى ما يشبه المطبخ وقام بإعداد كوبين من القهوة ووقفنا نتجاذب أطراف الحديث بعد أن عرّفني بنفسه وعلى زوجته وأنه المالك لهذا المحل.

دار الحديث حول أزمة الخليج وما سيحدث والتكهنات وكان يسألني ما لا أعرف إجاباته فأنا لست من أساطين السياسة، لكنني كنت أحاول الإجابة حسب معلوماتي البسيطة والضحلة نوعا ما. استأذنته في الذهاب فأعطاني بعضا من الصحف الإنجليزية وعلمت أنه يعتبر ثاني أكبر موزع للصحف في إكستر، ودعاني للمجيء كل ليلة عند الساعة الثامنة لشرب القهوة والحديث معه قبل موعد الإقفال الساعة التاسعة.

بدأت تنمو بيننا علاقة صداقة متشابكة، فهو إنجليزي أبا عن جد عن جد، وأنا على النقيض منه عربي كابرا عن كابر.

تداخلت الثقافتين العربية والإنجليزية ونجح كل منا في التأثير الإيجابي في الآخر، دعاني لطعام الغداء في منزله في يوم أحد وتعرفت إلى والدته السيدة مورين ووالده السيد ريتشارد (توفيا من أكثر من 10 سنوات) وقابلت ابنه دانيال ذي الخمس سنوات وابنة زوجته (نسيت اسمها) ذات الأربعة عشر ربيعا.

يتمتع ديفيد بشخصية مرحة ظريفة ساخرة، وتلك الصفات جعلت من ائتلاف روحينا وذوبان جبال الثلج بيننا في وقت قصير جدا. كان يصحو عند الرابعة صباحا ويتناول طعام الفطار ويغادر منزله ليصل إلى محله الساعة الخامسة إلا ربعا ليقوم بطبع أوراق توزيع الصحف على المشتركين لتصل إلى منازلهم الساعة السادسة صباحا.

والدته ذات الستين خريفا وشعر رمادي قصير ونظارات طبية بلون شعرها شخصية مزاجية تحبني أحيانا وتكرهني أحايين أخرى.  تبتسم كثيرا لي لكن تلك الابتسامات تخفي عدم ارتياح خـلْقـي وكانت تقول له عني محذرة: He is a bad influence هو تأثير سيء عليك.

والده كان يتمتع بصفاء روحي وشخصية إنجليزية محافظة، يتسم بأدب جم وحديثه له طابع كلاسيكي انجليزي، ويعكس كل ذلك مظهره فهو دائما يهتم بما يلبس وربطة العنق لا تفارق رقبته حتى عندما يحضر للمحل لشراء بعض الحلويات لسبطه دانيال.

كان ديفيد يعاني من ضغوط بسبب زوجته أنجلا فلم يكونا على وفاق فهي مثل أغلب نساء العالم تحاول السيطرة عليه. كان يشتكي لي عندما أذهب ليلا للمحل لشرب القهوة والحديث قبل الإقفال الساعة التاسعة. كنت أحاول إصلاح الأمور ورأب الصدع بينهما ومساعدته على تحملها فكلنا ذاك الرجل وأقول له You are a chicken أنت دجاجة. انتهى الحال بينهما بالانفصال وقال لي ذات يوم بعد انفصالهما: I left her to prove to you that I am not a chicken تركتها لأثبت لك انني لست دجاجة.

أذكر أنني كنت ذات مساء في منزله عند الساعة السابعة مساءً في أحد أعياد الفصح وكان يوم إجازة له (هناك بعض العاملين يستعين بهم في فترات من اليوم وبعض الإجازات). لبس دانيال روب النوم وقبّل خد أمه وقال لها Good night mum وقبّل والده وتمنى له ليلة سعيدة، وطبع على خدي قبلة وقال  good night uncle Ali وتوجه ميمما تجاه غرفة نومه في الدور الثاني. طلب مني ديفيد أن أصحبه إلى سريره فهو وأنجلا كانا مشغولين بشيء ما. صعدت معه ودخلنا الغرفة التي كان بها دولاب به رفوف عليها بعض القصص الصغيرة وتمدد على السرير ثم قال:

Uncle Ali tell me a story please!

العم علي هل لك أن تخبرني بقصة

اعتذرت منه لأن كل القصص التي كنت أسمعها من جدتي لأمي وخالي يرحمهما الله عن الجن وأم الصبيان والغول والنمنم، ولو أخبرته بواحدة منها لانقلبت حياته كلها كوابيس، ولكانت جدته لأمه في الصباح التالي عند باب المحكمة تشتكي مطالبة بالقصاص مني لأنني حولت حياة دانيال إلى جحيم دائم. قال لي: اقرأ لي قصة توماس القطار والتفت إلى الدولاب وسحبت منه القصة التي لا تتجاوز 4 صفحات، وما كدت أصل إلى الصفحة الثالثة إلا ودانيال يغط في نوم عميق. تذكرت أبناءنا الذين نسقيهم ماء غريب وشراب الكحة أكتيفيد والفنتولين حتى ينامون.

الصداقة بين ديفيد وبيني تطورت ويعتبرني أخا له ويفتخر بذلك حتى أنه يتصل بي عندما يكون في رحلة على دراجته النارية عبر أوروبا ويتفاخر الدراجون بإخوتهم فيقول لهم عندي أخ لم تلده أمي ولا يمكن لأحد أن يشبهه. اتصل بي في إحدى رحلاته من إسبانيا وكان يبكي ويقول: قل لرفقائي أنك أخي وأنه مهما بعدت بيننا المسافات سنظل أخوين حتى الممات.

بكيت كثيرًا عندما تواصلت معه ورأيت حالته وهو يجلس على السرير في بيته الجديد في سومرست وحوله زوجته ليسا وبناته الثلاث وهو يغالب أدمعه. كنت أحاول أن أجعل من الحديث ظريفا وأن أضفي على روحه شيئا من التفاؤل. ضحك ملء حياته وقال:

You are my brother Ali Bongo*

من خلال تجربة شخصية وتعاملي مع أمريكيين وانجليز أستطيع القول إنه من السهولة بمكان أن تُـكّون صديقا إنجليزيا ومن الصعوبة أيضا أن تخسره، على العكس من الأمريكيين فمن السهولة أن تصنع صديقا ومن السهل أن تخسره.

دعواتي بالشفاء لأخي ومحبتي لصديقي ديفيد بن ريتشارد نيوتن الذي سيظل رمزًا للتعايش بين العوالم مهما اختلفت ألوانها وثقافاتها.

بقلم/ علي عويض الأزوري

————————————–

* كان ويليام أوليفر والاس (8 ديسمبر 1929 – 8 مارس 2009) ، المعروف باسمه المسرحي علي بونغو ، ساحرا كوميديا إنجليزيا ورئيسا سابقا للدائرة السحرية The Magic Circle، الذي أدى عملا عرف فيه باسم “صرخة العربي”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى