إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

والذكريات (14)

علي عويض الأزوري

بعد أن قررنا صديقي (يرحمه الله) مغادرة أسمرة إلى أديس أبابا توجهنا للمطار الذي لم تكن به طائرات، وانتظرنا قرابة الساعة حتى حطت طائرة تابعة للخطوط الإثيوبية ونزل منها الركاب وصعدنا إلى الطائرة. كان زمن الرحلة حوالي الساعة والنصف. في طريقنا ونحن نحلق على ارتفاع آلاف الأقدام قال قائد الطائرة أنه على الجانب الأيسر يوجد قبر النجاشي.

وصلنا إلى مطار أديس أبابا حوالي الساعة الخامسة بعد العصر، كان يعج بالحركة والمسافرين والقادمين؛ أحسست بالحياة تدب في ذهني وجسمي وأنني عدت من عالم الأموات إلى الحياة مرة أخرى.

ذهب صديقي ليتصل هاتفيًّا بسيدة كان أحدهم أعطاه رقم تليفونها؛ تملك فيلا للسياح القادمين من السعودية، وكان ذلك نوعًا من تسهيل الأمور علينا، تواصل معها وأخبرتْهُ أن نستقل سيارة أجرة ونعطي للسائق الاسم فهي معروفة في أديس أبابا. وجدنا سائق سيارة أجرة والذي عرف مكان السيدة وطلب منا أن نمشي إلى مواقف السيارات خارج المطار حيث توجد سيارته، في أثناء سيرنا للمواقف كان هناك شخص يجلس على لوح مربع يكاد أن يلمس الأرض إلا من أربعة كفرات صغيرة ويدفع ذلك اللوح بيديه كأنه يجدف في الماء، كان يستجدي وأنا امشي فلم آبه له.

وصلنا إلى السيارة وعندما حاول السائق تشغيلها استعصت عليه؛ طلب من بعض الشباب المساعدة في دفع السيارة فإذا بذلك المعاق يقفز من على اللوح ويقف على رجليه ويقوم بالدفع مع الآخرين وكأن الشفاء نزل عليه فجأة من السماء. أخذنا السائق إلى بيت السيدة وفي الطريق شاهدنا طرقًا واسعة، وعمائرَ ومحلات تجارية، وحركة مرورية دؤوبة، وأكوام من الناس تمشي في الشوارع، والمساحات الخضراء تكاد تغطي جوانب الطريق.

تتميز أديس أبابا بأنها منطقة جبلية فترى الجبال مكسوة بالخضرة وكثافة الأشجار.

وصلنا إلى بيت السيدة الذي يمكن وصفه بأنه فيلا واستقبلتنا بحفاوة. كانت تتكلم الإنجليزية فلم نجد صعوبة في التواصل معهان اعتذرت منا حيث إن الفيلا بها شخصان من السعودية كان يجلسان في المجلس وتحدثنا معهما بينما كانت تتصل على بعض معارفها لتأمين سكن لنا حتى يغادر الشخصان. أخبرتنا أنها وجدت فيلا في منطقة أخرى وعرضت علينا مرافقتنا لإيصالنا وإنهاء إجراءات السكن. كان لديها سيارة مستأجرة وسائق وفي الطريق طلبنا منها أن نتوقف عند أحد المراكز الغذائية لشراء بعض المستلزمات قبل الذهاب إلى السكن المنتظر. دخلنا إلى مركز متوسط الحجم ووقفت السيدة واسمها (سام رايت) مع صديقي عند مدخل المركز وقمت بدفع العربة والتبضع. تعودت أثناء وجودي في بريطانيا عندما أذهب للتسوق أن أقوم بحساب المشتريات لأضع مبلغا إجماليًّا افتراضيًّا. عندما وقفت أمام المحاسب وانتهى من حساب مشترياتي قال إن المبلغ المطلوب 400 بير (العملة المحلية وتنطق بِر)، أخبرته أن الرقم غير صحيح وعليه أن يعيد الحساب.. كان صديقي وسام رايت يقفان على مقربة منا، وسألني صديقي: ما المشكلة؟ قلت له: إن ما قمت بشرائه يزيد عن المئتين وهناك خطأ في الحساب، حصل نقاش بيني وبين المحاسب استدعى حضور مدير المحل وأخبرته أن هناك خطأ ما، فقال: إن الماكينة لا تخطيء، قلت مجيبًا: وأنا متأكد أن آلة حسابي الذهنية لا تخطيء أيضا. كان من ضمن المشتريات علبة بهارات سعرها 19.7، لكن المحاسب وضع الرقم 197 وهنا زاد الرقم الإجمالي؛ اعتذروا عن ذلك الخطأ الذي لم أكن متيقنا وقتها أنه مقصود أو لا.

وصلنا إلى البيت الذي أوصت السيدة سام أن نسكن فيه ليومين واستقبلتنا المالكة (مطلقة) ومعها فتاتان إحداهما في العاشرة، والثانية في الرابعة عشر من العمر، والحارس الذي لن أنسى اسمه(كبَادَا) ويسكن في سيارة جيب في فناء الفيلا. وضعنا أمتعتنا في الغرف المعدة لإقامتنا وذهب صديقي إلى المطبخ لإعداد وجبة عشاء لنا فنحن لم نأكل منذ الصباح قبل مغادرتنا أسمرة.

خلدنا إلى النوم بعد العشاء وصحونا قبل أن يصحو (كبادا) وأديس أبابا وذهب صديقي إلى المطبخ ليعد وجبة الإفطار، وجد أن قارورة الزيت التي اشتريناها ليلة البارحة قد ذهب ثلثاها، عاد إلي وهو يحمل قارورة الزيت وهي تشكو من سطو ليلي ظاهر. أيقظنا السيدة وسألناها فأجابت أننا استهلكنا الزيت عندما أعددنا وجبة العشاء، قلت لها حتى لو قمنا بشرب الزيت فلن نستطيع أن نشرب الثلثين، حصل جدل وارتفعت أصواتنا وحضر (كبادا) الذي كان منكوش أشعث أغبر. اتصلت على زوجها السابق وتحدث معي وأخبرني أنه مدير لأحد البنوك وسيأتي لزيارتنا والتحدث معنا. وصل وكان حسن الملبس والمظهر وجلس معنا وعرف من خلال حديثنا أننا مختلفون إلى حد كبير عن بقية السياح الذين يستقبلونهم وعرض علينا استضافتنا في مطعم شعبي لوجبة العشاء.

طلبنا من السيدة أن تعد لنا طعام الغداء فجاءتنا بشرائح لحم خفيفة بقر متبلة ومملحة ولكنها غير مطبوخة. أعرض صديقي عن أكلها لكني تجرأت وتناولت قطعا منها، كانت لذيذة المذاق.

وصحبنا السيد مدير البنك إلى بيت من البيوت الشعبية القديمة الذي تم تحويله إلى مطعم، كان المطعم عبارة عن المجلس الأساسي وهو على شكل دائري وفي الوسط الباب وفي الطرف الأيمن ما يشبه الشباك الطويل. كان الزبائن يجلسون في الدائرة بجانب بعضهم البعض وأمامهم طاولات صغيرة للأكل، ويظهر في الشباك شاب وفتاة يقومان بعروض شعبية من أغانٍ ورقص تقليدي. سألت المضيّف عن أَكَلَة لحوم البشر الذين قرأت عنهم سابقا فقال إنهم قبائل موجودون على بعد 50 كيلومترا من أديس أبابا، وانهم يحبون اللحم الأبيض الممتلئ. نظرت إلى صديقي وكنت أضحك ملء فمي، سألني لماذا أضحك (كان ممتلئ الجسم) قلت: كأني بك بينهم وهم يقضمون في أكتافك وأنا جالس أنظر إليك وأضحك منتظرا دوري لكن سيشبعون منك ويطلقوني رأفة بي. سألته عن السبب في عدم طبخ اللحم البقري فقال إنه كانت هناك حروب بين القبائل قديما وعندما يرغبون في تناول العشاء يفضلون عدم اشعال النار لئلا يراها المتربصون من قبيلة أخرى فيهاجمونهم ولذا آثروا أكل اللحم نيئا.

قلت: لكن اللحم البقري غير المطهو جيدًا يسبب الإصابة بالدودة الشريطية.

أجاب: صحيح ويذهبون إلى المستشفيات ويتعالجون ويخرجون ثم يعودون إلى تناوله مرة أخرى نيئا.

وجدنا ضالتنا في الأكل فهناك ما يسمونه (الـكـَبـِـش) وهي عبارة عن خرفان صغيرة في الحجم والطول حيث لا يتجاوز ارتفاعها عن الأرض 30 سم ووزنها بين الأربعة والخمسة كيلو غراما والثمن بين الثلاثين والأربعين ريالا.  كنا نشتري كبشا للغداء وكبشا للعشاء فأشبعنا فضولنا وبطوننا بعد أن انتقلنا للسكن في فيلا السيدة (سام رايت). تعتبر إثيوبيا في تلك الأيام رخيصة إلى حد كبير حيث استأجرنا الفيلا مع سيارة بسائقها وعاملة منزلية بمئتي ريال في اليوم.

قضينا بضعة أيام في أديس أبابا ثم حجزنا على الخطوط الإثيوبية للعودة إلى أرض الوطن التي قدمت لنا وجبة عشاء عبارة عن شرائح لحم بقر نيئة ومتبلة. كنت أمازح كبير المضيفين فقلت له: أُعجبت ببلادكم والسياحة فيها فهل لي أن آخذ شيئًا للذكرى؟ تبسم وقال: لك ما تريد. قلت: هل لي أن آخذ مقعد الطائرة الذي أجلس عليه؟!.

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88