إسبوعية ومخصصةزوايا وأقلام

الاغتراب في حياة الرسول محمد -عليه الصلاة السلام- قبل البعثة

علي عويض الأزوري

كنت أجمع مادة عن الاغتراب عند النبي صالح عليه السلام، وجدت أثناء بحثي العديد من المقالات والدراسات التي تتحدث عن الاغتراب الذي درسته من نواحي فلسفية وأدبية ونفسية واجتماعية ولفظية من أكثر من 30 سنة. إن الاغتراب في حياة الأنبياء والرسل يختلف في جوهره ومعناه عن الاغتراب عند بقية البشر.

بدأ الاغتراب عند الرسول محمد صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره، وفي هذه المقالة/ الدراسة اعتمدت على ثلاث آيات رئيسية في الكتابة عن المفهوم من ناحية روحية وفكرية واجتماعية. أستطيع تقسيم الاغتراب في حياته عليه الصلاة والسلام إلى: بسيط، ومركب، ومعقد.

– تلك الآيات وردت في سورة (الضحى): {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ (8)

في هذه الآيات أسباب نتج عنها الاغتراب: اليتم، والفقر، والضلالة.

– ولد الرسول يتيم الأب، ثم توفيت أمه وكفله جده عبد المطلب وبعد وفاته، كفله عمه أبو طالب.

عندما يفقد الطفل أحد والديه أو كلاهما يتسبب ذلك في نوع من الاغتراب النفسي، فالأب يلعب دورًا حاسمًا في نمو الطفل من خلال التفاعل المتزايد بينه وبين طفله، فدور الأب ضروري في تربية الأبناء نظرا لتلك العلاقة الوجدانية التي تربطهما ببعض، فالأب هو الصديق والناصح والــراشـد وهـو الذي يساهم في التفتح العقلي لابنه، ويتجلـــى دور الأب كذلك في مساعــــدة الطفل على تقبل ومـواجهــة صعـوبات الحيـاة الاجتماعية واكتساب هويتـه الخاصة، فالعلاقة الآمنة بين الطفل ووالديه تنمي وتطور القدرات لدى الطفل مثل قدرة الاتصال، التواصل مع الآخرين، والقدرة على حبهم، فمفتاح فهم الطفل هو طبيعة علاقته بوالديه، فالعلاقة بين الطفل ووالديه اللذان يعتنيان به تعتبر مؤثرًا إيجابيًّا مهمًّا على نموه، وهذا النمو يتأثر بما يتعلمه الطفل من والديه. لكن الأطفال الأيتام الذين يعيشون في كنف أسرة ممتدة وتقدم لهم برامج رعاية خاصة يتمتعون بمستوى جيد من التكيف لا يقل عن الأطفال العاديين الذين لم يفقدوا والديهم، ولذلك تقول الآية ( يتيما فآوى) أي جعلت لك مأوى تأوي إليه وهو بيت جده عبد المطلب ثم عمه أبي طالب، ولذا خفف عنه الاغتراب النفسي من فقد والديه.

بيد أن انتقاله الى بيت عمه أبي طالب الذي كان فقيرا زاد من حجم المعاناة، مع أن أبا طالب كان معينًا له رغم فقره. يبقى مفهوم الفقر نسبيًّا واختلف في تحديده المفكرون والخبراء، ويبدو الاختلاف بينًا بين علماء الاقتصاد الذين يعتمدون معايير كمية، وعلماء الاجتماع الذين يركزون أكثر على الأبعاد الاجتماعية. لذلك وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم عند الهجرة إلى المدينة للقضاء على الفقر وحفاظًا على كرامة المهاجرين قام بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وعندما جاءت الأموال إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعطى المهاجرين لكنهم ردوا ما أعطي لهم واستقلوا بدور خاصة بهم واعتمدوا على أنفسهم في تحسين أحوالهم.

عمل الرسول -عليه الصلاة والسلام- في رعي الغنم لأهل مكة على قراريط لتساعده على مواجهة مشكلة الفقر التي كانت تؤثر على عمه أبي طالب وعليه. كان الرعي أيضا للرسول -عليه الصلاة والسلام- خروجًا من حالة الاغتراب النفسي فالعمل فيه تسلية وبُعد عن الركون إلى الأفكار السالبة التي تسيطر على الشخص الذي لا يجد عملًا.

كَبر الرسول -عليه الصلاة والسلام- فتولى تجارة خديجة رضي الله عنها، كان مديرًا ومسؤولًا ماليًّا لأعمالها، مما زاد من دخله وتحوله من حالة الفقر بعد زواجه من خديجة إلى حالة الغنى النسبي حيث قال:”ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس”. زاد الغنى بعد أن فتح الله عليه من البلدان، التي جبيت له أموالها وخراجها. خرج الرسول -عليه الصلاة والسلام- من الحالة الثانية من الاغتراب (ووجدك عائلا فأغنى).

– يعرِّف عبد الله بن محمد الهروي الأنصاري الاغتراب بأنه «أمرٌ يُشار به إلى الانفراد على الأكْـفاء»؛ بمعنى أن كل من انفرد بوصف جليل دون أبناء جنسه فإنه غريب بينهم، مغترب عنهم.

– الحالة الثالثة المعقدة من الاغتراب التي عايشها الرسول -عليه الصلاة والسلام- كانت اغتراب روح وفكر. شعر بمفارقة كبيرة بينه وبين قومه. كانت قريش تعبد الأصنام ومحمد كان رافضا بالفطرة لذلك، وهنا نشأت تلك الغربة الروحية والفكرية، كانت المسافة شاسعة بينه وبين قومه، ومن البديهي أن تكون هناك فجوة بين الاثنين؛ ذلك الشعور دفعه للعزلة أو الانعزال عن المجتمع الذي يعيش فيه، فهما وإن كانا يتكلمان نفس اللغة إلا أن التوافق الفكري به ثغرة.

وجد الرسول -عليه الصلاة والسلام- مكانًا منعزلًا للتأمل والتفكر في غار حراء، كان يتزود بالمطعم والمشرب ويقضي بالغار أياما (حسب الروايات). إن في الاختلاء بالنفس نوع من التطهير الفكري والروحي، والإعداد لمراحل أخرى. كان ذلك الاغتراب إيجابيًّا للرسول -عليه الصلاة والسلام- يختلف عن بقية البشر الذين لو حدث لهم ما حدث له لأصيبوا بحالات من الاكتئاب والانفصام.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى).. كانت نفسه في نفسها ضالة، ووجده الله ضالًّا بين الناس لا يعرفون حقه فهداهم إليه ودلهم عليه، غافلًا عما يراد به من أمر النبوة، فهداه: أي أرشده.

– كان الاغتراب للرسول -عليه الصلاة والسلام- إيجابًا، كما ذكرت سابقًا، وكانت من نتائجه التواصل والاتصال مع الله سبحانه وتعالى؛ كان فيه إعداد نفسي وفكري وروحي لتلقي الرسالة التي أحدثت ثورة مجتمعية ودينية وفكرية في العالم أجمع.

بقلم/ علي عويض الأزوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى
Link partner: gaspol168 sky77 koko303 zeus138 luxury111 bos88 bro138 batman138 luxury333 roma77 ligaciputra qqnusa qqmacan gas138 bola88 indobet slot5000 ligaplay88